منذ أن أصبح التلفزيون بحجم كف اليد، وفي متناول اليد في كل وقت ومكان، ومنذ أن تسلطت عليه محطات الدجل والشعوذة والكذب الصراح، عزفت عنه، واستبدلته بما تملك يدي، ولا مكان له في البيت إلا لتزيين المكان، ولكي لا يبقى مكانه خالياً فلطالما كان صديقاً في وقته، ومُعلّماً في أوانه، وطالما كان بالنسبة لنا في ماضي الوقت جالباً للمعرفة والدهشة والمتعة.
اليوم لم يعد كذلك، وإذا لم يتدارك نفسه في اللحظة والتو، فسيصبح مصيره مصير الوسائل الورقية التقليدية، غير أنني بالأمس، وبعد انقطاع طويل، قلت سأقلب في محطاته التي تزيد على المئات من باب الفضول، فأدهشني هذا الكم من الزيف في المحطات الدينية، ومحطات التثقيف الصحي، ومحطات تخلط الدين بالاستطباب، كتلك المحطات التي تضع القرآن صوتاً باستمرار، وتروج بالصورة عن منتجات عشبية مقوية، وتنشط البنكرياس، وتصلح لألم المفاصل في آن واحد، وهناك شخصيات تظهر على محطات تبدو أنها مملوكة لهم بالكامل، لأنهم يقضون الساعات الطوال في الظهور والإعادة فيها، مثل تلك التي تحمل اسم «أم نور الصادقة»، ولا أدري هل هذا اسمها أم لقبها، أم اسمها الحركي؟ «أم نور الصادقة» تشبه العرّافات، وقارئات البخت والطالع خاصة أنها تحيط نفسها بمدخن، وجاعد، وجلسة بدوية، ولزوم المكر، فتبدأ بجلب الحبيب الغائب، وتحسب للمرأة المنجاب الولد والمولود، وكل أمر محمود.
يظهر شخص آخر على محطة أخرى، يظل يشكو من الوقت، ويشكو من بقية المحطات الكاذبة، وأصحابها المدعين، فيتلقى فجأة مكالمة من ليبيا كما تظهر على الشاشة، تصفه بالصادق، والمجرب والحكيم، وأنه ثبت لديها أنه أفضل معالج، فيقوم هو يشكر الرب على هذه الشهادة التي يعتز بها، ومن زبائنه، فيظهر لها مفاجئة عبارة عن «مضرب» صغير فيه أكسير السعادة، وأنها لن تشقى بعد اليوم.
كاذب ومدع آخر في محطة من محطات الفوضى الإعلامية، يسمى «شريف أبو شريف الحسني العلوي»، يطلب من زبائنه عدم الاتصال به في أوقات الصلاة، وعليهم أن يراعوا فروق التوقيت بين البلدان؛ لأنه يكون في حضرة الصلاة جماعة في المساجد، ويمكنهم التواصل مع وكلائه في كافة الدول العربية والإسلامية، ويشدد أن ليس له وكلاء في روسيا البيضاء وألمانيا وفنلندا، ويعلن قبل بدء أذان العشاء عن طرح دواء عشبي، خال من أي مواد كيماوية لعلاج الفشل الكلوي، وتقوية الطحال على الطاعة، وأن مفاجأته المقبلة قبل أذان الفجر، بإذن الله تعالى، دواء ناقع لعلاج الجذام والبرص والبهاق، ومن جزع الصواعق، والبروق اللواقع.
لا أدري من هم الجمهور المستهدف من الرسائل الإعلامية في تلك المحطات؟ وهل لديهم تصريح بالبث؟ وهل هناك شروط للاستضافة على الأقمار الاصطناعية؟ وهل هناك رقابة صحية تتابعهم، وتتابع أدويتهم الوسخة والمؤذية للناس، وتمنع بيعها حفاظاً على صحتهم؟ وكلمة أخيرة إذا ما اجتمع الجهل والبلاء، وغياب حارس البوابة الإعلامية أنتج محطات تلفزيونية تترصد النجوم، وتبث السموم، ولا حظ لها من العلوم!