رغم أن هذه الرحلة بلا تذكرة، ولكنها من التجارب الاستثنائية التي لا تتكرر، أن تستقل لوحدك طائرة خاصة، ليس فيها إلا «الكابتن»، ومساعده، ومضيفة، وحضرة «الباشا»، وقائمة طعام تشبع عشرة أنفار، والوجهة «نابولي»، والصدفة وحدها جعلت الذي اعتاد السفر على ناقلات وطنية أفريقية توصلك لجهة غير متفق عليها، ورومانية غير مختصة بشحن اللحوم والذبائح، وناقلات تابعة لجمهوريات مستقلة، كل الذي ربحته من الاستقلال، تحويل طائرات الشحن العسكرية لطائرات مدنية، ظلت فرحة بها طويلاً، أقول الصدفة وحدها، وليس مالاً فائضاً، ولا تغيراً في الحال، جعلتني أشعر لأول مرة معنى لكلمة «الباشا» التي تكثر في الأفلام المصرية، شعرت بأنه لا ضرورة لرفيق سفر، يبدو عليه الأسف من دفع ثمن تذكرته السياحية، ويريد أن يُظهّرها من جليسه بادعائه الكثير من الأمور، ولأول مرة افتقدت رصّة الكراسي التي في «الكَرّيَلّ»، وافتقدت معها ذلك المسافر الذي يظل «يلجزك» بكوعه في خاصرتك، وافتقدت بعض النفر من المسافرين الذين لا يقرون في مكان، وكل حين وساعة، يتعلث بالذهاب إلى الحمام، وهو ناشف ما عنده قدر الفنجان، بس يحب يُعثرّ المسافر الذي جنبه، فتقترح تبادل الكراسي ما دام فيه «طرقه»، فتجلس أنت جنب النافذة التي تحبها، والتي بقيت تحسده عليها، فيبتسم، ويقول: لا.. أحب التمتع بمشاهدة المناظر، فتتمتم: طيب.. أجلس على بيصك، وتمتع بالمناظر! تشوفون نسيت الطائرة الخاصة، ورديت للحديث عن طائرات «أم أحمد»، المهم أول شيء قالته المضيفة، بوجهها البشوش، وتلك الابتسامة التي تدربت عليها طويلاً، لتحظى بتلك المكانة في طائرة كهذه: يا باشا تحب تجلس في أي مقعد، والباشا هذه من عندي، فضحكت، وكدت أجلس في أول مقعد، فخفت أن يكون من الكراسي التي تخصص لجلوس المضيفات، فأشعرها أنني أول مرة أستقل طائرة خاصة، استجمعت ثقتي بنفسي، وبقيت واقفاً أحادثها في موضوع غير مهم، وعيني تدور على كرسي، عادة ما يجلس عليه القوم الذين يعرفون مثل هذه الطائرة، كغرفة صغيرة في منازلهم، وما ساعدني على اتخاذ مثل هذا القرار بهذه السرعة، كونه أول قرار يجب اتخاذه بحزم، لتسير الأمور فيما بعد بشكل طبيعي، ولا تربك طاقم الطائرة، وجود حزمة من الجرائد والمجلات وصينية مكسرات، جلست، وأول شيء كنت أريد أن أطلبه «غرشة كولا» باردة، فقلت: عيب، ودّر عنك طبعك الطفولي، وشغل مال الحارة القديمة، فقلت للمضيفة، مبتسماً بجفاف: ممكن ماء فاتر، بدرجة حرارة الغرفة من فضلك.. ونكمل