ليس أجمل من السفر في البحر أو النهر، ومدينة بلا بحر أو نهر، تشعرني بأنها مدينة مؤقتة على التاريخ أو الجغرافيا، لذا حينما قال المؤرخ «هيرودوت» مرة: «إن مصر هبة النيل»! فإن ذلك يعني أن البحار والأنهر تعطي عافية خاصة، واستمرارية على البقاء والمقاومة للمدن، وقلما تجد مدينة من دون نهر حان كجد قديم وكبير، تبتسم، وتخبئ الفرحة، تجعلها ترقص في صدرها. هكذا.. تصنع الأنهر الحياة، ونهر النيل كغيره من الأنهر العظيمة التي لعبت دوراً عظيماً في التاريخ ونور الحضارة، كدجلة والفرات والأمازون والمسيسبي وسيحون وجيحون والكانغ والنهر الأصفر، وغيرها، فالأنهر العظيمة كالبحار العظيمة، موطن استقرار ونافذة إشعاع، ومصدر للتواصل المستمر مع الآخرين، والبلد المحظوظ يجد نهراً يؤنسه في مسيرة الحياة، كصديق جميل تراه كل يوم. تجمع حول النيل البشر من أطراف الدنيا ليشكلوا حضارات ودولاً وأمماً، وقفزوا بالإنسان من محارب ومقاتل إلى رجل بناء وعمران وعلم وازدهار، قدر النيل أن يلملم حكايات البشر الساكنين على ضفافه، الزارعين على أطرافه، كيف أسعد الناس وأطعمهم وحماهم؟ وكيف غضب يوماً عليهم فأغرقهم ودفن بطميه أخضرهم ويابسهم؟ حملهم وحمل أثقالهم وحجرهم التاريخي نحو معابد التبجيل والطاعة والاستسلام، عبده الأولون، لأنه كبير ولأنه مهيب، ولأنه باعث الحياة في الزرع والضرع، أهدوا الله أجمل عرائسهم، مجدوا عيده وفرحوا بمواعيده. كان يشارك المحبين قصص الأحلام الجميلة، كان يحرس الوعد ويتجمل للقاءات المسائية ويحفظ أشعار العاشقين، كان يضحك للشمس في شروقها، ويبكيها في غروبها، كان يكفي شاعر أن يقف قبالته لينشد للوطن أحلى غزل وأغلى نشيد، كان الفلاح يمشي حذوه ويطرب لسير مائه، فيغني ويرسل الآهات عبر نايه وربابته، كانت الخيول تأتي مثيرة النقع وعجاج الريح وما إن تصل لاهثة وتبصر عيونها زرقته، حتى يكون اللجام، وتتحطم مغامرات القواد وطمع الاتساع كانت الثرثرة فوق النيل، وكان الصراع فوق النيل، وكانت القصص والروايات، كان شاهداً على كل الغزوات والمغامرات، جاء «الإسكندر» وانحنى، و«أنطونيو» وانحنى، و«قمبيز» وانحنى، جاء «نابليون» وانحنى، جاء «عبد الناصر» وبنى، كان السد هرماً رابعاً، يومها كان الفلاح المصري فصيحاً. اليوم، أصبحت الأنهر العظيمة أشبه ما تكون بالأنهر المكتفة، المسيجة، من كثرة ما بني عليها، وعلى ضفافها، وما تسوّر وأحاط بأطرافها، وهي اليوم خريطة الحروب القادمة، وهي اليوم مكب للنفايات، وما يضر الإنسان والطبيعة، لقد تغير الوقت، فبعد العبادة والتقرب لها بالطقوس السنوية والاحتفالات، اليوم هي مستودع للمخلفات!