تدخل البيت ومكيفات الهواء تضخ صقيعها والزوجة تصيح (حرانة)، ويأتي الأبناء من الخارج، وبمعية سيارات مكيفة، وهم يلهثون وأصابعهم مثل مساحات الزجاج تطوف على الجبهات المغضنة، والخادمة في البيت تمد شفتيها مكتئبة من سوء ما تواجهه من متاعب تحت اللظى، فتتذكر أنت الذي عاصرت العريش وهفهفات الخرق المنشورة فوق الأسقف السعفية، مثل أشرعة مراكب قديمة، تتذكر أولئك الصناديد وماجدات الزمن الجميل، وهن يحلبن المواشي، ويخضضن اللبن، ويجلبن صفائح الماء من مناطق تبعد بعشرات الكيلومترات، وهن يعزفن لحن الخلود من دون أناة أو آهات، وكن هن المشرعات لخوض المسافات الطويلة من حياة لم تكن مفروشة بالورود، لكنها كانت مؤثثة بوجدان إنساني لا يعرف التأفف، ولا يخنع لقسوة الظرف، كانت الحياة لذلك الجيل موشومة بالحب والإرادة التي لا تلين ولا تستكين، كانت حياة النبلاء من نسل صحراء أنجبت عباقرة صناعة الحلم، وجهابذة تشكيل الفرح من لون النخلة الوارفة، ومن نسيج الرمل الأصفر، وعلى سيمفونية الموجة الراقصة عند سواحل الأمل والانتظار الطويل لعودة المسافر، ومجيء السواعد السمر بعد غياب من أجل بلاغة الأمنيات التي لا تحدها خدود، ولا تمنعها حرقة صيف، ولا حماقة موجة، ولا شراسة فك مفترس. هؤلاء عندما نتذكرهم ونستعيد أمجادهم، ونستدعي العقل كي يضع مقاييسه الموزونة بالضمير الحي، نشعر بضآلة مكانتنا، وضحالة جيل استسهل الحصول على الأشياء وصار عالة على الوجود، وكلما كبر الشاب، ونضجت المرأة ازدادوا اتكالية وتقاعساً عن جلب ما يمنع عنهم الكلل، ومد اليد لولي أمر، أو كبير العائلة. عندما نستحضر أولئك الأبطال نصغر نحن، ونبدو مثل بقايا ما تبقى من تاريخ لا نستطيع استعادته، ولو لمجرد احتفاء بما غاب وتلاشى، نشعر بتأنيب الضمير ونحن نتذكر ما أنجزه أولئك، لأننا ونحن ننظر إلى وجوه الحاضرين ينتابنا اليأس، فهؤلاء بدوا عاجزين عن صناعة ما يرفع عنهم العتب، فهؤلاء لا يريدون أن يفعلوا شيئاً، هؤلاء اتكأوا على أريكة الهواء البارد، ويخشون من العرق، ورائحته تجعلهم (بلا قيمة) أمام الزوجة أو الزوج، هؤلاء غادروا منطقة أحلام السفر الطويل، واكتفوا البقاء في المكان الذي لا يسبب العرق، هؤلاء جيل يحتاج إلى مناهج جديدة، تعلمه ماذا كان يفعل الأولون الذين واجهوا لظى الصيف وشظف الحياة.