تلاشى كل شيء فيها.. ما يحيط بها، ما تتوق إليه أو تفكر فيه. تلاشت الذاكرة والنسيان، الكائنات والأشياء. الملامح تبهت والكيان السمة التي نسجتها السنوات والتجارب. حالة من السديم كأنها تتشكل من جديد كي تكون محض رحم يتمركز في معنى يختزل الحب كله في رمز واحد نسميه «الأم» وهو.. الرمز والمعنى كغموض، كالطلسم لا يدرك بالعقل وحده. العينان تنوءان بثقل غيمة ثقيلة من ضباب رمادي يدور بؤبؤهما في مسالك الحزن الذي ينعجن بالخوف من ترصد المجهول والتباس الوضوح. خوف شديد الإعتام تحيكه الاحتمالات التي يشب بها العقل والمعرفة. كل الحواس تمازجت وانصهرت في بوتقة الحزن لتصير حاسة واحدة نسميها «الأمومة» لكن اسمها في الجوهر الفيض العظيم! حالة من السديم الآن هذه المرأة/‏ الأم. محض رحم لا دلاله له غير الأمومة التي لا يحد اتساعها وتجوهر عمقها في الوجود. ولا فعل له غير التمركز حول التجسد الأسمى للحياة.. حول الجنين/‏الطفل.. والطفل يخضه ألم مرير، ألم شرس مجهول الأسباب وبسبب من هذه المجهولية يصير الخوف هلعا والحزن محيطا. الأم تتكئ بحواسها كلها، بأعضائها، بحرقتها وخوفها، بحيرتها المشوبة وهلع روحها لتمتص الألم في كيانها وينسل الطفل من رحم الطمأنينة حيث لا تطاله شراسة الألم ولا مخالب المجهول.. هناك يقبع هادئاً في حماية النعمة الإلهية.. المحيط الوثير، الشفيف، النقي حيث ضوء الحقيقة الأولى لجوهر الإنسان. هذه الأم هي المرأة ذاتها التي منحت نفسها شرف استشراف الحياة في إشراقها الأول، في انبثاقها من منبع الأزل حتى صيرورة الوجود. هي ذاتها التي تضطرب بفرح نديٍ حين يرتجف الطفل في مخاض ولادته بين يديها، ويطلق صرخته البدائية الأولى في سمعها اليقظ المنتشي. وهي نفسها التي تشق بمبضعها الرحيم جسد الحياة حين التعسر، لتخرج الصعب من الصعب.هي نفسها.. لكنها الآن تُخض كمحيط يرج عمقه هول عاصف.. هي نفسها الآن تلهث في أروقة الأسى والذهول والاستنكار، منطوية على صرختها الإنسانية الكبرى: إلهي لماذا يحدث كل هذا؟! إنه طفل!! هكذا.. كما لو كان الطفل لا ينبغي بالمطلق أن يمسّه مس! وحين يصعد النداء الذي يتردد في الغيبوبة والصحو، في الباطن والظاهر، في الحلم واليقظة، في الضعف والقوّة، في الوضوح والالتباس، في الشكِّ واليقين، في مراحل العمر كلها، منذ عفو الطفولة حتى مشارف الانطفاء! «ماما» يصير هذا النداء هي التميمة الحارسة في كل تجليات الحياة. «الأمومة» أي فيض ونعمة هذه البالغة الثراء والنشوة !!