ينظر الرجل العربي العجوز حوله، في عينيه لمعة الدمع، يقول لي: لا أعرف كيف سأموت خارج هذا البلد. هو موظف وصل سن التقاعد في دائرة حكومية وصار أهله في وطنه ينتظرون عودته، ثلاثون عاماً في هذا البلد، يقول «هذا وطني». تتأمل ديمه ونوس الكاتبة السورية صاحبة رواية «الخائفون» التي وصلت القائمة القصيرة في جائزة الرواية العربية لهذا العام، قاعة الندوة التي عقدت للفائزين الستة في مقر اتحاد الكتاب، تقول لقد رأت في هذا البلد كل الناس، التقت بالعرب من مختلف الجنسيات، وهذا مدهش لدرجة مثيرة للإعجاب. يضرب الولد الأوروبي من أصول آسيوية زميله العربي، يصرخ الطفل العربي أنه سيشتكي لإدارة المدرسة، الطفل الأجنبي يقول له إن أحداً لن يصدقه، لأنه عربي ولا أحد يصدق العرب. الولد الأجنبي لا يأتي بهذا الكلام من رأسه الصغير، لا تتشكل هكذا آراء عنصرية بالفطرة، إنها تغذية تلقاها في المنزل ومصادر الإعلام التي يطلع عليها في بيئته وخلفيته الثقافية. يتضايق الكثير من الأهالي من درس حول أنواع الخبز في منهج اللغة العربية، الوزارة لا تستوعب سبب الغضب، تقول إنه فقط درس تعريف بأنواع المخبوزات في العالم من باب الثقافة الحياتية، لكن الحقيقة أن ما فاحت رائحته من أسئلة الدرس كان أكثر من مجرد رائحة خبز، تقول مدرسة مستنكرة استهجان المجتمع «إنما المهياوة جزء من تراثنا الشعبي.. لماذا تستنكرون أن نعلمها أطفالنا» وهذا هو فخّ درس الخبز. الأطعمة هوية ثقافية، إسرائيل حين سرقت فلسطين حرصت على سرقة حتى الفلافل كي تشرعن وجودها لمستوى أعمق، فأقامت سلسلة مطاعم في دول كثيرة تقدم «الفلافل الإسرائيلي». ولم تكن في يوم من الأيام «المهياوة» الإيرانية أصلاً، تراثاً إماراتياً. حقيقة أن هذا البلد يفتح ذراعيه، يستقبل مختلف أطياف البشر، يتسامح مع مختلف الخلفيات الثقافية ويضمن لكل فرد حرية ممارسة طقوسه وعاداته في إطار القانون، لكنه مهما انفتح فهو يظل مدركاً لهويته، وهويته طال الزمن أو قصر «عربية» وليس في ذلك تعالياً على أي حضارة إنسانية أخرى إنما فقط اعتداد مشروع بالهوية والجذور. وشعب لا يعتد بجذوره لا تعلو شجرته في الفضاء الرحب إعلاناً صارخاً بوجوده، وفرد لا يفخر بأجداده يُنكره أبناؤه. التسامح ليس علاقة من طرف واحد، حين تكون كذلك تصير مجرد خنوع، والحر لا يخنع، ولو اضطر لتغميس الخبز بالتراب.