حين يضع الزمن سيناريو لنهاية ما، وتبدأ بوادر الختام تعلو، في أوج ذلك يصحو الإنسان وتصحو طبيعة فكره، تمور ثقافته بمخزونها وتموج، لتؤطر حدث الختام بما في الأفق من إجراء، فلا يمكن إلا وأن يمحص إرث الماضي ويضع التاريخ أمام حدث التغيير، فلا تبدأ النهايات ولا تتجاوز آمادها حتى ترضخ لوابل السنوات وويلات الأعوام وتتأجج فيها الحوارات، ليبقى الجدل العقيم منذ الأزل. فالحوارات على اختلافها سواء كانت أدبية او ثقافية او غيرها هي من مفاهيم الحياة وأسسها وفروعها، لا تخلص منها مآسي الدهر وعواقب الزمان الممتدة والمتوغلة من باطن الحياة الى مشارفها، ننبشها ونزينها حتى يشعر بها الملأ من جديد، أو يأتي بعضها من الإعلام الذي لا ينشط مداه حتى يقيم القائمة ويصعق الصاعقة ويثير الثائرة المحملة بالرغبات ويعنونها بالدلالات المفرطة، ويمنهجها بالسلوك القائم على الغريزة المشبعة بالتأويل الممل والخاسر. باتت الأهداف والمكتملات لا تبحث ولا تعالج بل تتكئ على الخلافات المثيرة التي تسحق التجدد وتجوف المستقبل وتصعبه، الكل يتمسك بطرف ويشده الى جانبه غير آبه بالرضى، الكل لديه معسكر يهمه بالأفضل ويمده بالمدد، والتراشق بالماضي هو الحاصل والدائر والممعن في المدارات والسياقات كلها حتى غيب الحاضر الجميل ومزج بالماضي الذي يكسوه التغييب ويلفه التحريض. بعض الأمم سحرها الآتي فأجلت الخلافات رغم أنها خلافات صعبة لا تسقط من الحسابات، إلا انها جنحت للبحث عن جمالية الحياة المرتهن للقادم.. أرادت أن تطمس القديم وتؤثر الحوار النقي العفيف وتقدر الصعوبات، لكنها ترى في أهدافها ناحية مثمرة على المدى.. ولم تكتف بطمس صعاب الماضي بل بادرت بالتضحيات من أجل مستقبل يقوم على ركائز حرة وباهرة، فجدار برلين مثلا بات قامة تراثية لا أكثر، وكذلك الحدود التي طمست وما بقي منها سوى الصور. لو ارتهنت هذه الأمم إلى حلقات الاحتقان لما كسبت الحاضر ولعجزت عن الحوار ولمكثت بعيدة كل البعد عن مدارك الحياة ومتطلباتها، ولكانت المعاناة تطل برأسها كلما مضت بها الحياة، لذا نرى بعض الأمم تسابق الزمن من أجل المضي والسعي نحو المستقبل، ترى منه تحد يلتف حول نهضتها لذا البحث عن الجديد والمبتكر هي خاصيتها المثلى. أما الأمم التي طغى عليها الخوف من القادم وحاصرها الماضي باتت حين تنشد التقدم يأتيها بهيمنة متبادلة، يصادر منها الرؤى المستقبلية ويكبلها من جديد، انها منهجية خارجة عن إطار الزمن بل هي التي تحتضر في صيفها، فالشعارات الكفيفة لا تحل بدل الرؤية الممعنة في نسق التجلي والتجدد، وابتكار الآتي من خيوط الأمل لهو الإبحار الحقيقي في نظم الحياة المشرقة، وبه تكتب الأمم فرحها وتنسى أحزانها وتشق طرقها المختلفة نحو النجاح.