مهما يكن الفاعل، فليس له صفة إلا شهوة قطع الرؤوس، وإن كانت من رخام أو حجر أو نحاس، لعظماء من التاريخ، تجرأوا على أبي جعفر المنصور، والمتنبي، وتطاولوا على شيخ المعرّة، فكل الذي قدر عليه الفاعل أنه تعدى آثماً، وتشاطراً منتفخاً بالهواء على تمثال يذّكر الناس بجميل صنع وعبقرية هذا المبدع والمنتمي لمدينته معرة النعمان، أبو العلاء المعري، وقام بجز رأسه، ذلك الرأس الذي أشقاهم، وسفه رؤوسهم التي يحملونها على أكتافهم منذ التاريخ البعيد، ورآهم على حقيقتهم ببصيرته لا ببصره الذي افتقده، وهو يحجل صغيراً إثر مرض الجدري الذي غيب النور عن العين، فزاده في القلب والعقل. في وقت من الزمان كان المتبادي إلى معرة النعمان، لا يدخلها إلا ويريد أن يلقي السلام على الشيخ الضرير، ولا يمكن أن يغادرها من دون أن يودع فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة بكلمات هن مثل الدعاء والرجاء، واليوم حينما يدخلونها مسلحين، فأول القتلى الأبرياء أبو العلاء، الساكن على قاعدة رخامية، بجلبابه البني المعصفر، وعمامته، فقد أثقبوا التمثال برصاص بائر في مخازنه، وأنزلوه من عليائه، وقطعوا الرأس، ولعلها ليست أول مصائب أبي العلاء مع هؤلاء النزق والغرباء، فقد حاربوه حيّاً، ورموه بالزندقة حينما لم يقيموا كلامه، ولم يستوعبوا فلسفته، فما أسهل الرجم، وإلقاء الحجر في وجه الآخر، وما أصعب الاعتراف بالخطيئة، لقد جاء هؤلاء المحتسبة يريدون أن يحاكموا أبا العلاء بجنحة التكفير، لا منطق التفكير، وقد كان عصره ومجايلوه أوسع مداركاً، ومعارف، وفضاؤهم أكثر حرية وفكراً وجدلاً، أما أتباع «محاكم التفتيش الديني الجدد» فهم سلاح بلا فكر، ورأس بلا وعي، لهم أرجل يمشون بها، وعقول لا يفكرون بها، هم مدارس الحفظ والنقل، والتلقين والتدوين، كلهم درسوا المعري في مدارسهم، لكن تسبقه جملة «أعوذ بالله»، وتتبعه جملة «لعنه الله» حينما يخلون بمرشديهم وأوصيائهم وناقعي الحنظل فيهم، فيغوونهم، وهو يعتقدون أنهم يسلكون بهم سبل الرشاد. لا يمكننا إلا أن نعد المعري من شهداء الثورة السورية، ولقد كان في حياته ثائراً في وجه الدنيا، ووجه المتملقين والمتفيقهين، وأرباب المصالح، وفاقدي الخلق والمروءة، نبغ في الشعر وهو أبن أحد عشر عاماً، واعتكف ولزم الدرس حتى بلغ العشرين، وبلغ شأناً في اللغة والأدب والمعارف، جده كان قاضياً، وأبوه من المبرزين علماً وأدباً، وكذلك أعمامه وأخواله، وأخوه شاعراً زاهداً، لكن العبقرية انحازت لأبي العلاء وبزّهم جميعاً، يعد من شعراء الإنسانية، وتراثه الأدبي يرقى للعالمية، عاش زاهداً، معتكفاً، ومتأملاً، متفكراً في شؤون الخلق والزمان والإنسان.. كان يقول: «اثنان أهل الأرض؛ ذو عقل بلا دين، وآخر دين لا عقل له»!