بعد سنوات من التراجع، عادت أعداد البشر الجوعى حول العالم لتتزايد بشكل مطرد خلال الأعوام الثلاث الماضية، ولتبلغ حالياً أكثر من 820 مليون إنسان، أو ما يعادل واحدا من بين كل تسعة أشخاص، على حسب تقرير صدر الأسبوع الماضي عن عدة منظمات تابعة للأمم المتحدة، تحت عنوان «الوضع العالمي للأمن الغذائي وللتغذية عام 2008». وبخلاف الجوع الصريح والواضح، لم يتحقق تقدم يذكر أيضاً على صعيد سوء التغذية، بأشكالها المختلفة ومداها الواسع، بداية من تأخر وقصور النمو لدى الأطفال، ونهاية بزيادة الوزن والسمنة بين البالغين، وهو ما من شأنه أن يترك آثارا سلبية على صحة مئات الملايين من البشر.
وعلى صعيد الجوع، وبعد تراجع ملحوظ، عادت مستوياته للتزايد مؤخراً كي تصل إلى حدود لم تشاهد منذ العقد الماضي، مما يشكل انتكاسة واضحة، ويرسل تحذيراً صريحاً بضرورة بذل الجهود وتوفير المصادر اللازمة، إذا ما كان لهدف التنمية المستدامة الساعي للوصول بعدد الجوعى إلى الصفر، أن يتحقق بحلول عام 2030.
ويظهر تقرير الأمم المتحدة السنوي، أن الوضع بلغ أقصى درجات تدهوره في جنوب أميركا، ومعظم مناطق أفريقيا، كما أن التقدم المحرز في الدول الآسيوية على صعيد تراجع معدلات نقص التغذية، قد بدأ يتباطأ هو الآخر. ومن بين الأسباب التي يشير إليها التقرير خلف هذا التدهور الغذائي العالمي، التغيرات المناخية التي تؤثر على أنماط سقوط الأمطار، وعلى انتظام المواسم الزراعية، وتؤدي إلى ظروف مناخية قاسية، مثل الجفاف والقحط، أو الفيضانات، وغيرها من العوامل البيئية التي تُصّعب من إنتاج الغذاء، وتؤدي إلى دمار وخراب المحاصيل الزراعية.
وتندرج أعداد الجوعى ومعدلات سوء التغذية ضمن مفهوم الأمن الغذائي (Food Security)، والذي يعتبر من أهم القضايا الاستراتيجية التي تشغل بال مخططي المستقبل، وصناع القرار السياسي والاقتصادي على المستويين الوطني والدولي. ويمكن تعريف الأمن الغذائي على أنه توافر الغذاء بشكل دائم، مع القدرة الفردية في الحصول عليه. فمثلا، تعتبر أسرة ما «مؤمَّنة غذائياً»، إذا كان أفرادها لا يعيشون في حالة من الجوع المزمن، ولا يخشون المجاعة في المستقبل.
وبشكل أكاديمي أدق، وحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، يتوافر الأمن الغذائي عندما تتوافر لجميع الأشخاص، وفي جميع الأوقات، القدرة على الحصول على قدر كاف من الغذاء الآمن، وبدرجة تمكنهم من استيفاء متطلباتهم الغذائية، وتلبي اختياراتهم الشخصية، ما يمكنهم من الحياة الطبيعية الصحية.
ولا يمكن الفصل بين الجوع والعنف، إذ يشكلان معاً جزأين من متلازمة يغذي كل طرف فيها الطرف الآخر؛ فالعنف المتجسد في شكل حروب وصراعات مسلحة يؤدي إلى دمار اقتصادي، وخراب زراعي، وعجز عن إنتاج كميات الغذاء الكافية للسكان المحليين.. كما أن الجوع بأسبابه المختلفة قد يؤدي بدوره إلى نشوب النزاعات والصراعات المسلحة.
وهناك أمثلة عديدة على تلازم العنف والجوع في العالم، حيث دائماً ما يؤدي العنف والفوضى، إلى كارثة إنسانية ذات أبعاد سياسية واقتصادية، ينتج عنها نزوح الملايين هرباً من العنف والعمليات القتالية، ليجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الجوع ونقص الغذاء، ويصبح المتاح لهم فقط هو ما تقدمه لهم منظمات الإغاثة الدولية من مساعدات.
ومما يزيد الطين بلة، أنه في ظروف الحرب والصراع المضطربة والخطرة، يصعب على موظفي الإغاثة القيام بمهامهم، حيث كثيراً ما يتم استهداف شاحنات المنظمات الدولية والاستيلاء عليها، كما يحدث أن يتعرض الموظفون للخطف والقتل أحياناً.
ومن المفارقات التي أظهرها تقرير الأمم المتحدة، أن صعوبة الحصول على غذاء صحي متوازن، وبخلاف ما يؤدي إليه من قصور وتأخر في نمو الأطفال، وفي إصابة البالغين بالضعف والهزال، ساهم أيضاً في تفاقم مشكلة زيادة الوزن والسمنة، حيث يُعتقَدُ أن ثمة في الوقت الحالي أكثر من 670 مليون شخص بالغ حول العالم، مصابين بزيادة الوزن والسمنة، وهما الداءان اللذين يعتبَران، عكس الاعتقاد الشائع، من أشكال سوء التغذية.
وسواء اتخذ التدهور الغذائي العالمي شكل ضعف وهزال وقصور في النمو، أو شكل سمنة وزيادة في الوزن، فإن كل هذه الأشكال تجر وراءها تبعات وآثار سلبية ودائمة على صحة الملايين من الناس حالياً، وعلى صحة ملايين آخرين من أجيال المستقبل، وهو أمر من شأنه أن يعيق التنمية العالمية، وأن يُبطأ من عجلة النمو الاقتصادي، ليتزايد الفقر ومن بعده الجوع، في دائرة مغلقة وخبيثة لا تنتهي.