صيف بريطانيا هذا العام كان ساخناً بصورة غير عادية على أكثر من صعيد، فحرارة الطقس وصلت، ولأول مرة، إلى 37 درجة مئوية، زادتها سخونة نسب الرطوبة العالية، إلا أن الأكثر سخونة كان المناقشات الحادة والمزمنة حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست» والمقرر في مارس 2019، أي بعد ستة أشهر من الآن، إذ لا تكاد تفتح وسيلة إعلام محلية إلا ويكون موضوع بريكست سيد الموقف، وبالأخص بعد أن استقال الوزير المسؤول عن التفاوض مع الاتحاد الأوروبي.
وشاءت الظروف أن أتابع عن قرب كل هذه النقاشات والخلافات بين البريطانيين حول عملية الخروج، والتي ما زالت مستمرة وستستمر حتى التاريخ المحدد للخروج، حيث تركزت المداولات حول موضوعين رئيسيين: الأول؛ هل سيتم الخروج باتفاق مع الاتحاد الأوروبي أم بدون اتفاق، والفرق هنا شاسع جداً. والثاني يدور حول تكلفة الخروج المقدرة بـ50 مليار دولار والتي يرى البعض أنها كبيرة، وبالتالي ترافق ذلك دعوات لإجراء استفتاء آخر ربما تعارضه رئيسة الوزراء.
خلق ذلك شعوراً بعدم اليقين، وهو أسوأ وضع يتعرض له اقتصاد دولة ما، فالغموض يؤدي إلى هروب الشركات ورؤوس الأموال، خصوصاً أن الكثير من الأنظمة والقوانين سوف يعدل أو يتغير، بما في ذلك الوضع القانوني للشركات والأيدي العاملة ونسب الضرائب والرسوم والمعاملات التجارية وعبور السلع والأفراد للحدود.. مما يلقي بظلال شك وحيرة لدى الشركات وقطاع الأعمال بشكل عام.
وما يثير الحيرة أكثر، أنه حتى داخل حكومة المحافظين برئاسة تيريزا ماي لا يوجد اتفاق حول عملية الخروج أو تكلفتها أو عواقبها، بدليل استقالة وزير الخارجية بوريس جونسون، هذا عدا موقف حزب العمال المراوغ، والذي يحاول الاستفادة من كل هذه التناقضات للدعوة لانتخابات جديدة كل هدفه منها هو الوصول للسلطة. وفي كل الأحوال، فإن الخسائر بدأت تتوالى بسبب عدم اليقين الذي يكتنف عملية الخروج.
وتتوزع تركة «رجل بريطانيا المريض» على مدن الاتحاد الأوروبي، من فرانكفورت إلى باريس وأمستردام وبروكسل.. إذ أعلنت العديد من الشركات والمؤسسات المالية الأوروبية وغير الأوروبية عن انتقال مكاتبها الإقليمية من العاصمة البريطانية لندن، والتي تعتبر المركز المالي العالمي لأوروبا، إلى مدن أوروبية أخرى تتزاحم وتتنافس فيما بينها لاستقطاب وجذب هذه الشركات، مع ما يمثله ذلك من خسارة للاقتصاد البريطاني، مما أثر على سعر الجنيه الإسترليني الذي تراجع بصورة ملحوظة ليبلغ أدنى مستوياته منذ سنوات عديدة.
وكمثال على ذلك أعلن بنك «اتش اس بي سي» عن نقل سبعة من مكاتبه من لندن إلى باريس بداية العام القادم، مما يعني انتقال عملياته الرئيسية إلى هناك، كما أعلنت العديد من الشركات اليابانية، كنيسان وهوندا وميتسوبيشي، وأخيراً باناسونيك للإكترونيات، نقل مقرها الإقليمي إلى هولندا مع نهاية العام الجاري، علماً أن الشركات اليابانية تستثمر نحو 60 مليار دولار وتوظف أكثر من 140 ألف شخص في المملكة المتحدة.
من جهتها تحاول بريطانيا إيجاد البديل من خلال إعادة هيكلة علاقاتها الاقتصادية والتجارية الدولية من خلال توقيع اتفاقيات للتجارة الحرة مع العديد من الدول، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، أو إبرام اتفاقيات اقتصادية جديدة لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت تربطها بالدول الأخرى أثناء عضويتها في الاتحاد الأوروبي، كتلك التي وقعتها رئيسة الوزراء البريطانية الأسبوع الماضي مع ست دول أفريقية.
وبالنتيجة، فإن بريطانيا، وحتى موعد الخروج في مارس القادم، ستكون في مأزق حقيقي بسبب التشاؤم السائد وعدم وضوح الرؤية، حتى من قبل السياسيين، سواء في الحكومة أو المعارضة، بل وحتى في أوساط المؤيدين لعملية الخروج.. مما يعني هروب المزيد من الشركات وتأزم قطاع الأعمال والأوضاع الاقتصادية بشكل عام.