«أنا أفعل دائماً ما لا أستطيع فعله كي أتعلم كيف أفعله»، قال ذلك الفنان «بيكاسو»، وهذا ما أفعله حين أكتب عنه، وأعماله المتعددة الأساليب والرؤى كأنها إبداع مجموعة فنانين عظام. في الأسبوع الماضي زرتُ أول متحف له في العالم، أقيم في مدينة «انتيب» جنوب فرنسا، وساهم «بيكاسو» بمده بأعماله. والمكان قلعة على ساحل البحر المتوسط تعود أصولها إلى عصر الإغريق، وفيها أقام «بيكاسو» استوديو، وعاش ستة شهور، مع رفيقته آنذاك الفنانة «فرانسواز جيلو». كان هو في الـ61 من عمره، وهي في الـ21، واستغرق حبهما سنوات الحرب العالمية الثانية العشر، اشتعلت خلالها علاقتهما بعواطف جارفة متصارعة لا تُطاق، تروي تفاصيلها بطريقة روائية ساحرة «فرانسواز»، في كتابها «حياتي مع بيكاسو»، والذي توجد له ترجمة عربية تضاهي بأناقتها وذكائها النص الإنجليزي، الذي ترجمته عنه الناقدة والشاعرة العراقية «مي مظفر»، زوجة الفنان الراحل «رافع الناصري»، ونقرأ فيه كيف كانت فرانسواز تقصد «بيكاسو لتعليمها فنون الطباعة، و«بعد خطوة غزل مفاجأة جريئة تساءل بيكاسو: ألا تمتنعين؟، قلتُ: وهل ينبغي لي؟ بدت عليه الصدمة، وكان مغلوباً على أمره، وكنتُ أعرف جيداً أنه لم يكن يدري ما يريد أن يفعله»!
ويدرك من تجاوز الستين قول بيكاسو: «يحتاج المرء إلى عمر طويل كي يبلغ مرحلة الشباب». وحملني شبابي إلى منزل بيكاسو في بلدة «موجين» بمقاطعة «كان» جنوب فرنسا، حيث عاش السنوات السبع الأخيرة من حياته، وتوفي عام 1973 عن 91 عاماً. وآخر ما كنت أتوقعه أن لا أعثر على المنزل، ولا على ذكره، حتى في المتحف المحلي في بلدة «موجين» التي لم أجد فيها سوى منحوتة رأس «بيكاسو»، وملصق يحمل صورته. وفهمت من موظفة السياحة في البلدة أن المنزل شخصي لا يحمل أي رقعة، وغير مسموح بزيارته. ولم تساعدني في العثور عليه خريطةُ «غوغل» التي أضاعتني في «سباغيتي» شوارع ودروب ساحرة الجمال صاعدة نازلة.
وتفاقم اللغز عندما علمتُ أن بيكاسو دُفن سراً في قلعة «شاتو فوفينارغيروز»، في إقليم «أكسين بروفينس» جنوب فرنسا على سهول تلال «مونت سانتا فكتوريا». صوّر هذه التلال في أكثر من ثلاثين لوحة الفنان «سيزان» الذي يُعتبرُ أب الفن الحديث. وقال بيكاسو لوكيل العقارات الذي باعه القلعة عام 1958: «اشتريتُ للتو جبال سيزان»! ولم يُعلن عن مدفنه في المكان إلاّ بعد مرور 36 عاماً على وفاته، وفُتح المكان للجمهور جزئياً ولبضعة شهور من السنة، حسب أوامر مالكة القلعة، ابنة زوجته الأخيرة «جاكلين» من رجل آخر، قبل أن تتزوج «بيكاسو»، وتنتحر حزناً لوفاته بطلقة بندقية.
وعندما نقرأ قول بيكاسو إن «الرسم طريقة أخرى فحسب لتسجيل اليوميات»، نرى في أعماله القرنَ العشرين، الذي عاشه وعشناه ولم يغادرنا، بعد مرور 18 عاماً على انتهائه، سواء في السياسة، أو الاقتصاد، أو الفلسفة، أو الفنون. القرن الذي تحققت وتحطمت فيه أحلام البشرية. و«محمد أنظر إلى العالم بالأفق الأوسع لبيكاسو»، كلمة إهداء كتاب بيكاسو، الذي ضمّ سيرة حياته وأعماله، كتبها الفنان العراقي مظفر العابد، شريكي في الغرفة بالقسم الداخلي للجامعة، حيث كنا ندرس في بولندا. كانت تلك أول وأتعس سنوات الغربة، وكنتُ أعاني صدمة الحنين الجارف للوطن، ومنذ نحو نصف قرن أحمل الكتاب معي في غربتي شرقاً وغرباً، وأصابني بعدوى شعور بيكاسو باستفزاز جمال النساء، «الجمال الملغز والمروِّع في آن، حيث تجري معركة بين الخير والشر، وميدان المعركة قلب الإنسان». قال ذلك الأديب الروسي دستوييفسكي، وهذا حال قلبي الذي يحرجني أينما ذهبت حول العالم.