منذ انتهت صيغة برامج التحرر الوطني لحركات التحرير عقب الحرب العالمية الثانية، لا نكاد نرى نجاحاً ملحوظاً للحركات الاجتماعية أو الثورات، التي اعتُبرت بديلة للتحرر الوطني باستثناءات جزئية في مصر أو غانا. ولكن تجربتي التي طالت مع حركات التحرير الأفريقية، لم تتح لي حضوراً حقيقياً لنجاح هذه الحركات التحررية المسلحة أو السلمية، سواء في بلاد «أميلكار كابرال» أو «نلسون مانديلا»، حيث سرعان ما انهارت البنية السياسية لمنظمات التحرير، ولم يبرز برنامج اجتماعي يؤمن الخطوات التي حققها «التمرد» السياسي. وهكذا حتى رأينا «ثورات الربيع العربية والأفريقية» نفسها، تغرق في «السياسي» وصراعاته، ولم تنتبه إلى تنفيذ سريع لبرنامج اجتماعي يحمل «الجماهير» إلى موقعها في السلطة والثروة، وبرامج التوزيع العادل لثروة البلاد، وفي حالات كثيرة كانت البلاد غنية بقدر كافٍ من الثروات المعدنية أو الصناعية، لكن غياب البرنامج الاجتماعي في جذر الحركة «الثورية» لم يتح لنا مشاهدة تطورها في هذا الاتجاه.
لا نريد هنا أن نغرق بدورنا في تفاصيل لنماذج متعددة. ولكني عدت هذه الفترة إلى حالة القلق على تطورات شعب جنوب السودان، وقد شاهدنا صراعات مدمرة بشكل متصاعد لتطوره السياسي والاجتماعي على السواء، ليس فقط بسبب خلاف «سلفا كير» مع «رياك مشار»، ولكن لارتباط ذلك بتحليلات أخرى تجعل الصراع جذرياً. ولم ينتبه المحللون كثيراً لأبعاد اجتماعية لم تعالجها «الحركة الشعبية لتحرير السودان» نفسها ولا الكتابات القريبة منها، رغم يسارية الحركة منذ بدايتها وجزء من مسيرتها.
فقد جاءت الأخبار في المدة القصيرة الماضية بأنباء «الاتفاق السياسي» شبه الشامل في الجنوب لتوزيع السلطة بين الحركة الحاكمة والمعارضة المتحالفة والمسماة بالمتمردين، والتي بدا كأنه غير تنظيم الأحزاب السبعة الصغيرة المتحالفة إلى جانب مشار أساساً. ولم نلحظ هنا أية إشارة لنية جديدة لوضع برنامج اجتماعي مناسب للحكومة الانتقالية الجديدة، أو تحليل العوامل الاجتماعية الخافية وراء ما سمي بصراع السلطة بين «الدينكا» و«النوير»، بينما يشير البعض إلى أن الصراعات داخل «الدينكا» أكثر مرارة أحياناً إلى حد تصور أنها عنصرية وليست اجتماعية أصلاً. وكان إعلان تمرد ضابط كبير في الجيش في يونيو الماضي مع نفوذه داخل الدنكاويين (بول مالونج أوان) بسبب محاولة «سلفاكير» أن يحل محله شخصية أخرى من «النوير» مما هدد الاتفاق الموقع منذ شهرين، وجعل منطقة «واو» مركزاً للتمرد.
أقول إنني رجعت إلى قراءات أقدم لأسأل محللين أقرب للواقع وللدراسة العلمية، وكان الوزير السابق والكاتب الجنوبي المعروف «فرنسيس دينق»، هو مرجعي، بل استندت إلى باحث شمالي أيضاً مثل
د.عبدالغفار محمد أحمد، والأول ترجم له مركز الدراسات السودانية أكثر من أربعة كتب في مقدمتها «دينامية الهوية» و«صراع الرؤى»، وللثاني «إدارة الأزمة في السودان»، وأشعر أن هذه الكتب المتوفرة والرائجة، إنما قُرئت مساعدة للتحليل السياسي بأكثر من التحليل الاجتماعي، بل إننا قرأنا أعمال «جون قرنق» نفسه من هذه الزاوية دون الاهتمام بتحليلاته الاجتماعية السابقة مع طرحه للسودان الجديد وبرنامج الجبهة من أجل العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة وتخليص الدولة من الشأن الديني...إلخ.
في هذه المرجعيات أردت أن أنبّه إلى أنه طالما بقيت التنظيمات السياسية وحتى الحركات الاجتماعية بعيدة عن التحليل الاجتماعي، ثم الانتباه لوضع برنامج اجتماعي، فلن تتغير إلا الوجوه السياسية التقليدية والبرامج المحافظة القديمة...أو تشابه المشاكل المستدامة مثل دارفور، خلافاً لما كان مؤملا أن تكون منطقة «أبيى» طريقاً للتغيير.
ألفت نظر القارئ إلى أن دراسة «فرنسيس دينق» عن أثر تمثيل الزراعيين في المنطقة الاستوائية وبحر الغزال، وتمثل نمط الرعاة – بل رعاة الأبقار- في بحر الغزال وأعالي النيل، وزحف بعضهم على الآخر جعل ما حدث في صراع الدينكا والنوير كصراع نفس العناصر في دارفور من قبل، قابل للتطور في نفس الاتجاه في المرحلة القادمة، رغم كل عذابات المرحلة السابقة.
لقد لخص «فرنسيس دينق»، وهو الخبير الدولي، والقريب من أعلى مراكز البحوث الأميركية –المطالب الاجتماعية للجنوبيين، بعيداً عن السياسة اليومية في عدد من النقاط نوجزها هنا في: اقتسام السلطة، والموارد الطبيعية، خاصة بين المركز والولايات، نوع الديمقراطية المناسب، العلاقة بين الدين والدولة، التعريف المشترك للهوية، بين العروبة والأفريقية والإسلام والمسيحية والمعتقدات المحلية، العناية بالمناطق الهامشية شمالاً وجنوباً، توزيع الثروة على الخدمات وبرامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وخاصة في مناطق ذات بعد اجتماعي للمشاكل التقليدية مثل النوبة، و«الانقسنا»، و«الفور» و«البجة».
هذا نموذج أتصوره مع «فرانسيس دينق» أننا إذا لم نجده في البرنامج المباشر لأي من المتصارعين أو وجدنا استمرار الصراع دون انتباه لهذه النقاط وغيرها، فلا نتوقع حلاً سريعاً للصراع.
هذه المطالب – بالمناسبة- تنطبق على كثير من الحركات في القارة الأفريقية والعالم العربي.‏?