في دراسة هي الأكبر من نوعها، شملت 1.2 مليون شخص لمدة شهر، توصل علماء جامعة «يل» الأميركية إلى أن ممارسة النشاط البدني بانتظام لمدة 45 دقيقة، من ثلاث إلى خمس مرات أسبوعياً، يمكنه أن يحسن من الصحة العقلية وأن يقلل من اختلالها، وخصوصاً ممارسة رياضات الفرق التي يشارك فيها المرء ضمن فريق مثل كرة القدم أو كرة السلة، أو ممارسة رياضات ركوب الدراجات، والآيروبك، والتي كان لها الأثر الإيجابي الأكبر على الصحة العقلية لممارسيها.
وتأتي هذه الدراسة على خلفية البيانات والإحصاءات التي تظهر انتشاراً واسعاً للاضطرابات العقلية والنفسية، بدرجة تجعلها أكثر انتشاراً من أمراض القلب والشرايين، أو الأمراض السرطانية، أو السكري بأنواعه المختلفة. فعلى سبيل المثال، يستوفي 26 في المئة من الأميركيين فوق سن الثامنة عشرة، المعايير التي يمكن على أساسها تشخيص إصابتهم بمرض عقلي. وعلى حسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، يُقدر أن الاضطرابات العقلية كلفت الاقتصاد العالمي عام 2010 حوالي 2.5 تريليون دولار، مع التوقع أن ترتفع هذه التكلفة بحلول عام 2030 إلى 6 تريليونات دولار بحلول عام 2030. وتأتي هذه التقديرات والتوقعات بناء على الأدلة والبراهين التي تشير إلى أن نصف أفراد الجنس البشري يتأثرون حالياً –بشكل مباشر أو غير مباشر- بالاضطرابات العقلية، والتي تترك وقعها على تقديرهم لذاتهم، وعلى علاقاتهم الاجتماعية والمهنية، وعلى قدرتهم على الأداء والإنتاج في حياتهم اليومية. كما أن من المعروف أن الحالة أو الصحة النفسية للشخص، يمكنها أيضاً أن تؤثر على صحته الجسدية، ويمكن أيضاً للاضطرابات العقلية أن تدفع بصاحبها إلى تجاه مشاكل صحية أكبر كإدمان المخدرات والكحوليات. ولذا يعتبر الحفاظ على صحة عقلية جيدة، شرطاً أساسياً للتمتع بحياة مديدة وسعيدة، حيث يمكن للصحة العقلية الجيدة أن تحسن من نوعية الحياة التي يحياها المرء، بينما تؤدي اضطرابات الصحة العقلية إلى فقدان جزء كبير من الراحة والسعادة والتمتع بالحياة بوجه عام.
ومن الأخطاء الشائعة في تقييمنا للحالة الصحية للإنسان، الاعتماد على مقاييس الصحة البدنية فقط، مع تجاهل أهمية الصحة النفسية في تحديد الوضع الصحي العام. وحتى عند أخذ الصحة النفسية في الاعتبار، فغالباً ما نقسمها إلى أبيض أو أسود فقط، أي إما أن يكون الشخص سليماً عقلياً ومتزناً نفسياً تماماً، أو أن يكون مختلاً عقلياً أو مضطرباً نفسياً، والحقيقة هي أن الصحة النفسية، مثلها مثل اللياقة البدنية، تتمثل في طيف واسع من الدرجات، يبدأ بالاتزان العقلي والنفسي التام، وينتهي بالاضطراب العقلي والنفسي الكامل.
وهو ما يعني أن الشخص ربما يكون في حالة غير مثالية من الحالة الصحية العقلية والنفسية، من دون أن يكون مريضاً عقلياً أو نفسياً من المنظور الطبي البحت. وهذا اللبس وسوء الفهم الشائعان في توصيف الحالة الصحية النفسية، ربما يكون مردهما إلى غياب تعريف متفق عليه لماهية الصحة النفسية بالتحديد، فحسب منظمة الصحة العالمية، لا يوجد تعريف (رسمي) واحد للصحة النفسية، بسبب الاختلافات الثقافية، والتقييمات الشخصية غير الموضوعية، مع تضارب النظريات العلمية واختلافها في تعريف الصحة النفسية. ولغرض هذا المقال، يمكن تعريف الصحة النفسية على أنها الحالة الصحية التي تتيح للشخص استغلال جميع إمكانياته، التي تمكنه من التعامل مع الضغوط النفسية التي تفرضها الحياة بشكل طبيعي، وتمكنه من العمل والإنتاج بشكل مثمر وبناء، وتتيح له القدرة على المساهمة في رفاهية وبناء مجتمعه.
وبناء على الأهمية الفائقة للتمتع بصحة عقلية جيدة، وعلى حسب خطة العمل الصادرة عن منظمة الصحة العالمية للفترة من 2013 إلى 2020، والتي اعتمدت من قبل الجمعية العامة، تم التأكيد على الدور المحوري للصحة العقلية في تحقيق هدف تمتع جميع أفراد المجتمع بأفضل مستوى من الصحة العامة، في الجانبين النفسي والجسدي. وتتضمن هذه الخطة أربع نقاط أساسية، هي ضرورة توفير خدمات صحية شاملة ومتكاملة للصحة العقلية وللرعاية الاجتماعية، على أن تكون داخل نسيج المجتمع ذاته ومن مكونات بنيته الصحية التحتية، مع وضع الاستراتيجيات الكفيلة بتحقيق أكبر قدر من الوقاية لأفراد المجتمع ودعم الصحة النفسية لأفراده قاطبة، ودعم نظم المعلومات والأبحاث والدراسات المرتبطة بالصحة النفسية، وهي الأهداف التي يجب أن تقع جميعها تحت مظلة من الإدارة والقيادة الصحية الرشيدة والفاعلة التي تتمتع بالكفاءة والقدرة على تحقيق جميع الأهداف المرجوة.