في فكرنا السياسي المعاصر نذهب إلى أن القبيلة حالة بدائية سابقة للدولة القومية المندمجة التي استبدلت التضامن الآلي بالتضامن العضوي، وعوضت الهويات الأصلية المتوارثة بالهويات الحرة المفتوحة.
من المثير في أيامنا أن الحديث المتزايد حول أزمة، بل نهاية الدولة الوطنية، يصاحبه حديث متنامٍ حول الرجوع إلى القبيلة، لا بالمعنى العشائري التقليدي، وإنما بمعنى العصبيات المجموعاتية المغلقة التي كان ابن خلدون قد نبه إلى أنها حقيقة في مسألة القبيلة وليس النسب. وإذا كان عالم الاجتماع الفرنسي «ميشال مِافسولي» قد أشار في الثمانينيّات من القرن الماضي إلى ظاهرة تجدد القبلية من خلال رصده للهويات المجتمعية الجزئية التي انتزعت حق الاعتراف والخصوصية داخل النسيج الوطني للدولة القومية (في كتابه عصر القبائل )، فإن الظاهرة التي تهمنا هنا تتعلق بمحددين مختلفين هما من جهة إعادة تشكل الهندسة السياسية في البلدان التي انهارت فيها الدولة الوطنية على أساس الهويات القبلية، كما هو شأن العديد من بلدان الشرق الأوسط، ومن جهة أخرى تجدد النزعات العصبية في أبعادها الإثنية والمحلية الضيقة في الدول القومية العريقة والديمقراطيات العتيدة في العالم الغربي.
في هذا السياق تبين الباحثة السياسية الأميركية «آمي تشوا» في مقالة مهمة بعنوان «العالم القبلي» (فورين أفيرز - يوليو 2018)، أن المأزق الاستراتيجي الأكبر الذي انجر عن سياسات التدخل الأميركي لقلب أنظمة الحكم وقولبة الأوضاع السياسية في العالم يتمثل في عدم إدراك أهمية المعطى العصبي في تشكل المجتمعات الإنسانية، نتيجة لانبناء الثقافة السياسية الأميركية على مرتكزات الدولة الوطنية الشاملة والمجردة والتبادل الاقتصادي الحر والتعددية السياسية الانتخابية (الفردية الرأسمالية والمواطنة الديمقراطية).
فعلى عكس القوى الاستعمارية الأوروبية التي كانت تدرك أهمية وتأثير العامل القبلي، قلبت الحروب الأميركية الأخيرة التوازنات الاجتماعية القائمة على الهويات العصبية، وبدلاً من فرض قيم المواطنة والديمقراطية التعددية انجر عنها انهيار كلي للدولة الوطنية، بحيث استفادت بعض المكونات الاجتماعية من التغيير القسري، فمارست التسلط والإقصاء باسم الموازين الديمقراطية، وفرضت على القوى المقصاة والمهمشة الانتظام في هويات دفاعية تستغلها الجماعات الراديكالية المتطرفة (قبائل البشتون في أفغانستان والعشائر السُنية العربية في العراق). بيد أن الخطر انتقل في السنوات الأخيرة إلى قلب المجتمع الأميركي نفسه، حسب تحليل «آمي تشوا» التي اعتبرت أن الهويات العصبية الانكفائية أصبحت تهدد الأمة الأميركية التي تميزت داخل السياق الغربي بأنها تأسست على فكرة التعددية والتنوع وبلورت فكرة المواطنة الديمقراطية المتساوية، على عكس المجتمعات الأوروبية التي تأسست على خلفيات قومية ذات أبعاد إثنية ضيقة.
تبين «تشوا» أن القاعدة الانتخابية التي صوتت للرئيس الحالي «ترامب» هي نمط من القبيلة البيضاء تنتمي لأميركا «العميقة»، تستشعر الخطر من طغيان وسيطرة النخب المعولمة التي تسيطر على الاقتصاد والإعلام والفضاء الإلكتروني.
ما لم تذكره «تشوا» هو ما نبه إليه الكاتب والفيلسوف الأميركي «مارك ليلا» في كتابه الأخير «ما مضى والمستقبل الليبرالي» من أن النزعة القبلية الأميركية بدأت في أوساط اليسار الذي ركز على حقوق الأقليات القومية والثقافية والجنسية وتخلى عن قيم المواطنة والكونية، فكرس الطريق لخصخصة وتجزئة المطالب السياسية، بما ولد ردة فعل مماثلة لدى الفئات الشعبية العريضة التي أصبحت ترى نفسها ضحية سيطرة وتحكم الأقليات المنتظمة في هويات قبلية مغلقة.
طغيان النزعات الشعبوية في أوروبا برافديها اليميني واليساري هو مظهر بارز لهذه الهويات القبلية الجديدة، التي تحدث عنها الكاتبان الأميركيان وهما يعنيان هنا بطبيعة الأمر الدلالة العصبية للانتماء التي تختلف عن المفهوم العشائري أو العرقي للقبيلة، حتى ولو كانت بعض الأدبيات السياسية المنتشرة تستخدم للتعبئة والتحشيد السردية العرقية العتيقة التي تختلف نوعياً عن الأطروحة القومية الحديثة التي تدمج عنصر المواطنة المتساوية والاختيار التعاقدي.
في إسرائيل التي تنعت عادة بالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، اعتمد الكنيست قانوناً يكرس يهودية الدولة؛ أي طابعها القبلي بالمفهوم البدائي الميثولوجي الذي يتنافى مع المفاهيم السياسية المدنية الحديثة، ويتعارض مع أطروحة الهوية المفتوحة الحرة، التي هي مرتكز العقل الديمقراطي نفسه، بما يعني إقصاء وإلغاء خمس سكان الدولة من العرب غير اليهود. في تعريفه للمثقف يذهب الفيلسوف الفرنسي «رجيس دوبريه» أنه هو من يتمتع بشجاعة «الخروج على القبيلة»، أي بعبارة أخرى من ينتزع حقه في صناعة هويته الحرة المستقلة دون أن يقوده القطيع المتلاحم.