في نهاية شهر أكتوبر الماضي، وضمن فعاليات المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي، ومن خلال خطبة استغرقت أكثر من ثلاث ساعات ونصف، أعلن الرئيس الصيني «شي جين بينغ» عن رؤيته لتحويل الصين خلال العقود الثلاثة القادمة إلى قوة عظمى في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والبيئية. وعلى ما يبدو فقد تم الشروع بالفعل في إنجاز خطوات واسعة في هذه الرؤية، وفق البيانات والإحصاءات الصادرة هذا العام عن المؤسسة الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة (National Science Foundation)، على الأقل في مجالي العلوم والابتكار. فعلى سبيل المثال، تحتل الصين حالياً المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة على قائمة الدول الأكثر إنفاقاً في مجالي الأبحاث والتطوير (Research & Development)، وبما يمثل 21 في المئة من حجم الإنفاق العالمي، أو ما يعادل تريليوني دولار سنوياً. وبلغت الصين هذه المرتبة، بعد زيادة سنوية، عاماً بعد آخر، بنسبة 18 في المئة في ميزانية الأبحاث والتطوير بين عامي 2010 و2015، وهو معدل الزيادة الذي بلغ حينها أربعة أضعاف معدل الزيادة في ميزانية الإنفاق على الأبحاث والتطوير في الولايات المتحدة. ولذا، ورغم أن الولايات المتحدة، مقارنةً بالصين تنفق حالياً على الأبحاث والتطوير ميزانية أكبر، إلا أن الفارق في معدل الزيادة السنوية بين الدولتين، سيجعل الصين تحتل المرتبة الأولى بميزانية أبحاث وتطوير أكبر من نظيرتها لدى الولايات المتحدة في غضون السنوات العشر القادمة. وتعتبر ميزانيات الأبحاث والتطوير مؤشراً هاماً على حجم الاستثمار في التكنولوجيا وفي القدرات المستقبلية للاقتصاد، وهو ما ينعكس على سبل ومجالات الابتكار في الاقتصاد الوطني، وخصوصاً على صعيد ابتكار منتجات وخدمات جديدة. المؤشر الآخر لقياس القدرات المستقبلية للاقتصاد مجال الابتكار والتطور التكنولوجي، يتمثل في عدد الطلاب الذين يدرسون في مجال العلوم والتكنولوجيا. وعلى ما يبدو، فإن الصين قد خطت أيضاً هنا خطوات واسعة، وتخطت الولايات المتحدة بمسافة شاسعة. حيث تشير الإحصاءات إلى أن عدد خريجي العلوم والهندسة في الصين قد ازداد من 359 ألفاً إلى 1.65 مليون، وذلك في الفترة بين عامي 2000 و2014. بينما في الولايات المتحدة، وخلال نفس الفترة، ازداد عدد خريجي العلوم والهندسة من 483 ألفاً إلى 742 ألفاً فقط. وهو ما يعني أن عدد خريجي العلوم والهندسة في الصين، يبلغ تقريباً ضعفه في الولايات المتحدة، وإن كان جزء كبير من هذا الفارق يعود إلى التباين الواضح في عدد سكان الدولتين. وتشكل أعداد خريجي العلوم والهندسة، والمجالات التكنولوجية الأخرى، أهمية فائقة في القدرات المستقبلية للدول، بناءً على أن اقتصاد الابتكار المبني على المعرفة يتطلب قوة عمل تتمتع بمهارات مرتفعة في تلك المجالات، وهو ما يتطلب أيضاً بالضرورة نظاماً تعليمياً قادراً على رفد الاقتصاد بهذه الأعداد، وبالمهارات المطلوبة. و ما يميز الجيل الجديد من العلماء والمهندسين الصينيين، بالإضافة إلى قدراتهم المعروفة في تجميع المكونات الإلكترونية الدقيقة المصنعة في أماكن أخرى، جرأتهم على اقتحام مجالات تكنولوجية حديثة، أكثر تعقيداً وتطلُّباً، مثل الكمبيوترات الخارقة «السوبر كمبيوتر»، أو طائرات نقل الركاب، وغيرها من المجالات التي كانت لفترة قريبة مقصورة على علماء ومهندسي الدول الغربية فقط. وبالنظر إلى أن عدد براءات الاختراع، يعكس عدد الابتكارات التكنولوجية والعلمية، نجد أن تفوق الصين في المؤشرات سابقة الذكر، وبالتحديد الزيادة السنوية في ميزانية الأبحاث والتطوير، وعدد طلاب العلوم والهندسة، خلق آمالا لدى الصين في إمكانية التنافس مع الولايات المتحدة في هذا المجال، أو على الأقل محاولة سد الهوة الشاسعة الحالية بين الدولتين على صعيد عدد براءات الاختراع المسجلة سنوياً. وعلى ما يبدو، فإن نفس هذه الآمال هي التي دفعت بجزء كبير من رأس المال (Venture Capital) المتخصص في الاستثمار في المنتجات الجديدة، وفي الاتجاهات الاقتصادية المستقبلية وبقية مجالات الابتكار، إلى التوجه نحو الصين خلال الأعوام القليلة الماضية. فرغم أن الصين لم تحظ أبداً بجزء كبير من هذا النوع من رأس المال الاستثماري، إذ لم يتجاوز لديها 3 مليارات دولار فقط حتى عام 2013، إلا أنه مع حلول عام 2016 ازداد حجم الاستثمار العالمي في مجالات الابتكار والعلوم في الصين، ليصل إلى 34 مليار دولار، وهو ما يعني أن الصين أصبحت تستحوذ على 27 في المئة من رأس المال العالمي المتخصص في الاستثمار في المستقبل من خلال العلم والابتكار.