تربعت الصين على عرش المركز الثاني عالمياً في المجال الاقتصادي، وتخطت اليابان التي تعاني تراجعاً ملحوظاً وركوداً ظاهراً، وبدأت تنافس أميركا بعد إزاحة عملاق آسيا الاقتصادي السابق. فالصين تجري في هذا المضمار للوصول إلى المركز الأول في عام 2030، خاصة وأن معدل نموها الاقتصادي قارب الـ10%، وهو الأعلى عالمياً. هذا في الوقت الذي كانت تعاني فيه معظم دول العالم انخفاضاً في النمو، إلى درجة أن بعض دول أوروبا الكبرى كانت تسعى لزيادة نموها ولو بنسبة نصف في المائة. ما هو السبب الرئيس لتبوء الصين هذه المكانة الاقتصادية، وعلى نحو أذهل خبراء الاقتصاد وعلماء المستقبليات منذ ثلاثة عقود؟ عانت الصين في السابق عدم توافر الموارد اللازمة لتلبية احتياجات أكثر من مليار نسمة هم عدد سكانها، وهي المعروفة بـ«سياسة الطفل الواحد»، قبل أن تسمح بـ«الطفل الثاني» في عام 2015، استدراكاً للاعتبارات الديموغرافية. الصين لم تعد شيوعية حمراء، فهي تبحث لمستقبلها عن اقتصاد أخضر ومستدام، كحال الدول المتقدمة اقتصادياً، وقد تحولت من صناعة التقليد إلى صناعة الابتكار بالأصالة وليس بالنيابة عن أي دولة صناعية أخرى من مجموعة «السبع الكبار». لقد ارتفع دخل الفرد في الصين من 40 دولاراً في السنة خلال الستينيات، إلى 8000 دولار في عام 2015، وبذلك انتشلت مئات الملايين من سكانها وهدة الفقر والعوز. وخارج حدودها، وفرت الصين نحو 13 مليون فرصة عمل، بفضل اعتمادها مبدأ «إصلاح الصين بالانفتاح». وحالياً، أينما توجهت، سترى «صنع في الصين»، وبالتجول في الشبكة العنكبوتية ستكتشف موقعاً لبيع كل ما يدور في خلدك من السلع والمنتجات الصينية، هو الموقع الأكبر على مستوى العالم، إذ يُباع من خلاله نحو مليار بضاعة، من حليب «الأمهات» الطازج، إلى الطائرات من دون طيار «الدرون». وبينما تبنت الصين نظرية «إصلاح الاقتصاد بالانفتاح»، هناك دول ملاصقة لها مازالت تصر على الانغلاق منذ عقود ولم تع الدرس الصيني، مثل كوريا الشمالية. وقد مثّل الاقتصاد الأداة التي تعاملت بها الصين مع دول العالم كافة، على اختلاف توجهاتها السياسية، ملتزمةً في ذلك بالانفتاح على الآخر المختلف، وهنا يكمن العامل الجوهري لنجاحها، خاصة حيال أفريقيا التي تعد المصدر الرئيس لإمدادها بالمواد الأولية. وغير بعيد من كوريا الشمالية في الانغلاق، هناك دول عربية وإسلامية، لازالت تفضل التقوقع على الذات، بدعاوى المقاومة والممانعة والحفاظ على الهوية من تلوث الانفتاح! وإدراكاً من الصين لمخاطر التلوث البيئي، لاسيما أنها الثانية بعد أميركا في تلويث البيئة، فقد بادرت إلى التوقيع على اتفاقية باريس لمكافحة التغير المناخي، في الوقت الذي قررت فيه أميركا ترامب الانسحاب من الاتفاقية. دخلنا ذات مرة أحد المراكز التجارية في أستراليا للتسوق، ففاجأتنا أسعاره المفرطة في الغلاء، ثم فكانت المفاجأة الثانية أن كل بضائعه من «صنع في الصين».وبسؤال المشرف على المبيعات في المركز، أكد لنا أن هذه السلع صينية، لكنها بمواصفات أسترالية، لذا فأسعارها عالية بالمقارنة مع بضائع الدول الأخرى. بالانفتاح إذن قادت الصين نهضتها الحديثة، وحازت في خزائنها معظم دولارات أميركا التي تخوض معها اليوم معركة الرسوم التجارية بفلسفة حمائية لم نشهدها من قبل. ومع ذلك، فالصين ماضية على «طريق الحرير» من جديد، تعيد من خلاله بناء شبكة تجارية تلف بها العالم كما يلف سورها العظيم أرجاء واسعة من الأرض، وقد دفعت القسط الأول من تكلفته، ومقداره 200 مليار دولار، لتقوم بربط أكثر من 60 بلداً من خلال المصالح الاقتصادية والتبادلات التجارية، بعد أن فرّقتها السياسات الطائشة والأيديولوجيات البائسة.