كثيرون يخصون الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» بالذكر، ضمن ما يعتبره الدارسون «تصاعد الميل لتعزيز السلطات الرئاسية» وما يصاحب ذلك من «صناعة الأيقونات السياسية، وتوظيف الأضواء والكاميرات، وتجييش العواطف الدينية المسيحية والإسلامية، حسب الدولة، في تعزيز نفوذ الرئيس وتمجيده. تقول الباحثة د. نورهان الشيخ، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، والتي تتقن اللغة الروسية، إن بوتين «يعد قيادة استثنائية في التاريخ الروسي، وربما لا ينافسه ذلك سوى بطرس الأكبر الذي حكم روسيا على مدى أربعة عقود، غيّر فيها وجه روسيا، وبنى نهضتها وإمبراطوريتها الممتدة». قيادة بوتين الكاريزمية، تضيف د. نورهان، «تتمتع بعظمة القياصرة، ودهاء الساسة، وشجاعة القادة، وتعكس بصيرة التحليل، وعمق الشعور بضخامة التحديات، ووضوح الرؤية نحو المستقبل». إلى جانب هذا كله، تقول إن بوتين «لديه قدرة على الإنجاز وترجمة الأهداف، ويعي جيداً كيف يقتنص الفرص، ويحول التحدي إلى نصر، وأين تطأ قدماه»! والرئيس الأميركي نفسه «دونالد ترامب»، عبر كذلك عن إعجابه ببوتين، ووصفه بأنه «القائد القوي الذي يجب التفاهم معه». ما الذي ساعد بوتين وسانده في تحقيق هذه المكانة؟ ثمة خمسة منابع لقوة هذا الزعيم الروسي في تحليل د. نورهان. أول هذه العوامل تلك المتعلقة بشخص بوتين ومستوى تأهيله وخبرته. فقد درس القانون في جامعة لينينجراد، وكذلك الاقتصاد، فنال فيهما درجة الدكتوراه، وعايش على مدى 15 عاماً بعد تخرجه سنة 1975 الأزمات التي فككت الاتحاد السوفييتي والدولة الروسية، وعمل في المخابرات السوفييتية KGB نحو ربع قرن، بل إنه في عام 1997 أصبح مدير الجهاز الأمني الذي ورث الجهاز السوفييتي، إلى جانب تعيينه رئيساً للوزراء في العام نفسه. «ولا شك في أن هذه الخبرة الطويلة والمتنوعة أكسبته عمقاً في الرؤية ودراية واسعة بكواليس العمل السياسي، وبالبيروقراطية الروسية». العامل الثاني، «الإطار الدستوري» الذي يمنح الرئيس الروسي حرية واسعة في الحركة. فقد عمد «يلتسين»، الرئيس الروسي عام 1993، عند صياغة الدستور، إلى الحد من سلطات البرلمان وغيّر من طبيعة مواده باتجاه نظام رئاسي قوي يلعب فيه رئيس الجمهورية الدور المحوري، فكان في هذا خدمة كبيرة لبوتين. العامل الثالث، دهاء بوتين وبعد نظره؛ إذ لم يقم بتعديل الدستور الذي يحد ترشيحه لرئاسة ثالثة بعد انتهاء فترة الرئاسة الثانية عام 2008، مؤكداً «أن دستور روسيا الاتحادية لا يجب تعديله من أجل شخص»، ودَعَم بوتين انتخاب «ميدفيديف» رئيساً للجمهورية، وانتقل هو للعمل رئيساً للحكومة على مدى أربع سنوات، «عمل خلالها كرجل ثانٍ في النظام، وعاد في نهايتها مجدداً لسدة الحكم». رابع العوامل قدرة بوتين على استعادة الاستقرار والخروج بالحياة السياسية من حالة الفوضى والصراع، وكان حاسماً في الحد من تدخل رجال الأعمال في السياسة، و«الحرص الشديد على عقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في موعدهما منذ توليه السلطة». وخامس العوامل امتلاك بوتين، تقول الباحثة، «الرؤية والإيمان والإنجاز». كما قدم نموذجاً للقيادة الوطنية القادرة على التغيير». ومن ملاحظات د. نورهان الشيخ على الرئيس بوتين أنه «قليل الكلام والتصريحات»، وأنه أنهى حالة الاستقطاب بين القوى الشيوعية والقومية من ناحية، والقوى الليبرالية من الناحية الأخرى، «وكان الانتعاش الاقتصادي هو بداية الصحوة الروسية، بعد أن كادت روسيا تعلن إفلاسها خلال الأزمة الاقتصادية التي واجهتها في أغسطس 2008». على الصعيد الاقتصادي بلغت صادرات روسيا الزراعية 20 مليار دولار سنوياً متجاوزة صادرات الأسلحة، ولتصبح روسيا أكبر مصدر للحبوب في العالم. وقد نجح بوتين في إعادة الأمن إلى الشارع الروسي وتعامل بشكل فعال مع الإرهاب، وأحدث نقلة نوعية في قدرات روسيا العسكرية، إلى جانب ما تصدره من سلاح بقيمة 15.3 مليار دولار سنة 2017، «الديمقراطية، أبريل 2018». ماذا عن الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط؟ تقول الباحثة نفسها في دراسة بدورية «السياسة الدولية»، عدد 209، يوليو 2017، إن أولوية روسيا في هذه المنطقة كانت الاعتبارات الاستراتيجية والأمنية وإنشاء القواعد العسكرية ومنها قاعدة «حميميم» الجوية و«طرطوس» البحرية وكلتا القاعدتين في سوريا، حيث ترى موسكو أن سوريا هي نقطة الارتكاز الأساسية لها في المنطقة. وتسعى روسيا إلى حاضنة إقليمية معضدة لنفوذه، ومن ثم فهي تعمل على كسب شراكات دول الجوار السوري القريب والبعيد، وتبرز في هذا الإطار أهمية تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين موسكو وطهران. كذلك يعد العراق ركيزة أساسية للتنسيق الاستخباراتي والمعلوماتي الروسي ضد الإرهاب في المنطقة. وتبدي روسيا أيضاً حرصاً واضحاً على دفع العلاقات مع مصر لمستويات استراتيجية». ومن أركان السياسة الروسية في الشرق الأوسط، تضيف الباحثة: «تجنب المواجهة مع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ومحاولة ترويضها». «وقد استعادت العلاقات الروسية التركية وضعها عقب التدهور على خلفية إسقاط أنقرة الطائرة الحربية الروسية سنة 2015». ويلفت النظر في السياسة الروسية أنها «مع استمرار التأييد لكامل الحقوق الفلسطينية وحل الدولتين، فإن روسيا تسعى أيضاً إلى الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل». وشهدت الأعوام القليلة الماضية عدة زيارات متبادلة بين الدولتين. وعلى صعيد آخر لم تهمل موسكو علاقاتها مع الدول العربية الخليجية، خاصة المملكة العربية السعودية، وذلك حول القضية السورية وأسعار النفط. ولا يبدو بالطبع أن بوتين قد نجح تماماً في المنطقة. وتقول الباحثة إن دول الخليج اعتبرت التدخل الروسي دعماً مطلقاً للرئيس بشار الأسد ونظامه، وأن هذا التدخل قد أضر بالمسار الذي كانت تأمله للأزمة، والرحيل الذي بدا وشيكاً للأسد.. ومن ثم تردت الأوضاع وعاد الفتور إلى العلاقات الروسية الخليجية. وترى د. نورهان «أن الدور الروسي في المنطقة يزداد قوة وتأثيراً، ويمزج بوضوح بين القوة الصلبة والناعمة، وبين الضربات العسكرية والأدوات الدبلوماسية.. مع تجنب الصدام والمواجهة مع القوى الدولية والإقليمية الأخرى الفاعلة في المنطقة». ولكن هل تستطيع سياسة بوتين أن تتعايش مستقبلاً في هذه المنطقة المضطربة مع السياسة الأميركية والتركية والإسرائيلية والإيرانية والأوروبية؟ وهل يصمد أمام التيارات المعارضة للتسلط داخل روسيا؟