لا بدّ أن يُحسَب للرئيس الأميركي والزعيم الكوري الشمالي كسرهما جليد علاقات ساهمت توتّرات سبعة عقود في تحجّره. فلقاؤهما ليس حدثاً عابراً أو عادياً، حتى لو تأخّرت نتائجه، أو لم تتطابق مع توقّعات القوى الدولية الأخرى. ليس واقعياً التصديق بأن اختراقاً مهمّاً تحقق في قمة سنغافورة نظراً إلى ضخامة الخلاف وغياب مقدّمات مقنعة بأن تغييراً عميقاً طرأ على الجانبين وأوصلهما إلى بداية الوفاق، لكن يجب عدم التقليل من تقاربهما، فهو بداية لا بدّ منها. والمهم كان ولا يزال إبعاد أو إنهاء خطر المواجهة النووية الذي أقلق العالم وأرّقه على وقع تجارب نووية وصاروخية متلاحقة نفّذتها بيونج يانج خلال العام الماضي وسجالات لفظية ساخنة بين دونالد ترامب وكيم أون. إذ بدا الرجلان خلالها متقاربَين في التحدّيات المتهوّرة واستسهال التوتير والتصعيد. ليست المرّة الأولى التي تتخطّى فيها الولايات المتحدة الحاجز الأيديولوجي لاجتذاب عدوّ والتعامل معه، فالبراجماتية كانت تحضر دائماً في واشنطن حين تنسدّ آفاق الحلول العسكرية، أو تبدو عالية الكلفة وغير مضمونة الجدوى. ينطلق القائلون بأن القمة لن تبدّل شيئاً من عناصر عدّة، أهمها أن لا خلفية سياسية أو عسكرية لترامب نفسه وأن عقلية رجل الأعمال لا يمكن أن تصنع حلّاً تاريخياً للمسألة الكورية وتعقيداتها. أما العنصر الآخر فيتمثّل بصعوبة خروج النظام الكوري الشمالي من الخوف الوجودي كدافع للتسلّح وشاحذ لحدّة الحكم الشمولي في واحد من أسوأ نماذجه. لكن الظروف والمتغيّرات قادت للمرّة الأولى إلى فرصة بدت لوهلة خيالية ثم أصبحت حقيقية. كل شيء يتوقّف الآن على إدارة المفاوضات بين الطرفين في المرحلة المقبلة، بمقدار ما يرتبط بمواقف الأطراف الأخرى المعنية جيو-سياسياً، لا سيّما الصين وروسيا، واليابان وكوريا الجنوبية بدرجة أقلّ. كان كيم يعلم، قبل أن يتواصل مع واشنطن ومنذ تشاوره مع الرئيس الصيني شي جينبينج، أن لقاءه مع ترامب لن ينجح ما لم ينطلق من استعداد ضمني لتقليص ترسانته أو التخلّص منها في المدى البعيد، وبطبيعة الحال فإنه يتوقّع ضمانات ومساعدات وكذلك تغييراً في مقاربة الولايات المتحدة لأمن المنطقة والسلام الدائم فيها. لعل تمسّك بيونج يانج بصيغة «نزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية» يحمل مفهومها القائم على تزامن تخلّصها نهائياً من سلاحها النووي مع إزالة المظلة النووية الأميركية لحماية كوريا الجنوبية واليابان. هذه مسألة ستبقى خلافية، كونها تتجاوز الشأن الكوري، فالمظلّة تلك مخصّصة أولاً لحماية المصالح الأميركية التي تضاعفت أهميتها الاستراتيجية في الأعوام الأخيرة مع اندفاع أميركا إلى تعزيز نفوذها في جنوب آسيا، وبالتالي فإن إزالة المظلة تهمّ الصين لتوطيد هيمنتها على تلك المنطقة. انطلاقاً من ذلك تبرز الإسقاطات الكورية على الأزمة الإيرانية، لأن الصين وروسيا تتصوّران الوظيفة نفسها للسلاح النووي على حدودهما، فلا تخشيان تحوّله ضدّهما ولا تقاومان وجوده بل تديرانه كحاجز أمام المدّ الأميركي. ليس سرّاً أن الإمكانات التي وفّرتها بكين أتاحت لبيونج يانج الحصول على قنبلتها، وليس سرّاً أن تشغيل البرنامج الإيراني كان بفضل التسهيلات التي قدّمتها، ولذلك فإن تفكيك المشكلتَين يمرّ بـ «وفاق» بين الولايات المتّحدة والدولتَين الكُبريَين، ما يفترض اعترافاً أميركياً بالتعدّدية القطبية للنظام العالمي، وهو ما تتفاداه واشنطن. كانت الصين وروسيا رحّبتا بقمة سنغافورة إلا أنهما تعتبرانها خطوة أولى في رحلة الألف ميل، فبكين حثّت كيم على نزع سلاحه النووي وستراقب المفاوضات عن كثب لتحول دون أن يفعل ذلك بالوتيرة «السريعة» التي يأمل بها ترامب وإدارته. أما موسكو فرغم عدم تحكّمها كلّياً بالشأن النووي الإيراني إلا أنها تحاول استغلال الأزمة الحالية سواء في علاقتها مع طهران وتشعّباتها السورية أو في الإيحاء بأن لديها مفتاح الحلّ لمآخذ أميركا على الاتفاق النووي أو لسعي الأوروبيين إلى إبطال مفاعيل الانسحاب الأميركي من ذلك الاتفاق. في أي حال سيتبيّن سريعاً ما اذا كانت قمة ترامب - كيم، بخلفياتها والآفاق التي فتحتها، وضعت أمام طهران منطقاً دولياً جديداً لا تستطيع تجاهله، خصوصاً بسبب اقتناعها بأن الروس والأوروبيين لن يتمكّنوا من تخفيف أعباء العقوبات عليها. وإذا كان الأميركيون وضعوا الملف النووي على الطاولة ليوصلوا بعده إلى الملف السياسي مع كوريا الشمالية، فإنهم يلوّحون بمقاربة عكسية مع إيران باعتبار أنها لا تملك القنبلة بعد وأن الأولوية معها تتمثّل الآن في تغيير سلوكها.