كان لافتاً ردّ الفعل الإيراني الأوّلي على مطالب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بالقول، إن الولايات المتحدة تعمل على تغيير النظام في إيران! وقد أرادت طهران بهذا «الاتهام» أن تنبّه إلى أن الولايات المتحدة في صدد العودة إلى نهج سبق للمجتمع الدولي أن رفضه، خصوصاً بعد غزو العراق. ومن الواضح أن الاستنتاج الإيراني جاء نتيجة تخصيص مايك بومبيو جانباً كبيراً من خطابه في معهد «هيريتيج» للوضع داخل إيران والهوّة المتّسعة بين الشارع والنظام هناك. لكن أي تحليل للمطالب الـ12 التي عرضها الوزير الأميركي، يوصل إلى أن موقف طهران ينطوي على وجه آخر، مفاده مثلاً أن إنهاء دعمها للمنظمات الإرهابية ووقف أنشطة «فيلق القدس» في الخارج، يعادلان «تغيير النظام». لا يعني ذلك سوى أن النظام يعترف بصعوبة، بل استحالة إصلاح سياساته أو تغييرها، أقلّه لاستعادة شيئ من المصداقية في الداخل طالما أنها مفقودة في الخارج. أما ردّ الفعل الآخر فتمثّل في قفز الأوروبيين مباشرةً إلى التحذير من «مواجهة خطيرة» في المنطقة، وهو مصطلح حذر يتخوّف من حرب محتملة يكون طرفاها الرئيسيان أميركا والدول الحليفة لها وإيران من دون دول حليفة لكن مع الميليشيات التي أنشأتها في المنطقة. يخشى الأوروبيون هذا الاحتمال الذي ينقل خلافهم مع الولايات المتحدة من تباعد حول مصير الاتفاق النووي إلى وضع آخر يتطلّب منهم اصطفافاً واضحاً. صحيح أن المواجهة أو الحرب غدت الخيار الأخير لإيران للخروج من المأزق الذي دخلته بنفسها، غير أن الوجه السلمي الذي يظهره الأوروبيون ويعزونه إلى اندفاعات الرئيس الأميركي، كشف حقيقة كونهم لا يملكون في الوقت الحالي سياسة فاعلة حيال «المشكلة الإيرانية» في الخليج والشرق الأوسط ككل. قبل أقلّ من عامين كان الأوروبيون يشكون من أن سياسات إدارة باراك أوباما تشلّ خياراتهم لافتقادها الحزم والإرادة، واليوم يشكون من سياسات دونالد ترامب المفرطة في المجازفة! خلال المفاوضات النووية كانت لفرنسا وبريطانيا شروط وانتقادات لسير المحادثات الثنائية الأميركية (جون كيري) -الإيرانية (محمد جواد ظريف) وغموضها، ويعتقد العديد من الخبراء أن الأزمة الراهنة انعكاس لذلك الغموض، لكن الأوروبيين تجاوزوه أو يحاولون تصحيحه من دون أن يعرفوا أين كان الخطأ، أهو في تعهّدات إيرانية رماها ظريف للحصول على رفع العقوبات، أم في تلقفها من جانب كيري ورئيسه المتعجّلين لإعلان اتفاق يجمّد البرنامج النووي لعشر سنوات. المفارقة أن الأوروبيين يعتقدون الآن بوجوب «تعديل» الاتفاق، ويُبدون تأييداً لمطالبة واشنطن بوقف إنتاج الصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية، علماً بأنهم عملوا طوال الشهور الماضية على تمييع أي تحرك أميركي في مجلس الأمن لوقف التجارب الصاروخية التي أجرتها طهران. المفارقة الأخرى أنهم، على الرغم من التصريحات العلنية ضد السياسات الإقليمية لإيران، لم يبنوا أو يقترحوا أي سياسة للتعامل مع التدخّلات الإيرانية ومخاطرها. لم يقترب الصمت الأوروبي حيال خطاب بومبيو ولائحته من مواقف روسيا والصين فحسب، بل الأهم أنه يشجّع طهران على الاعتقاد بأنها هي التي نجحت في دقّ أسفين بين أميركا وأوروبا، أي فيما لم تفلح موسكو ولا بكين في إنجازه. ذاك أن الأمر لم يعد قاصراً على «إنقاذ» الاتفاق النووي، بل تخطّاه إلى مواجهة «المشكلة الإيرانية» برمتها. هذا لا يعني أن الاستراتيجية الأميركية، بصيغتَي ترامب وبومبيو أو حتى بصيغة ريكس تيليرسون سابقاً، تتضمّن معالجة مثالية للمشكلة، إلا أنها على الأقل تطرحها للمرّة الأولى بشمولية وبتشخيص أقرب إلى الواقع، خصوصاً في تشديدها على أمرَين بالغي الأهمية للمنطقة العربية: الأول، إنهاء الدعم الإيراني للإرهاب ومنظماته من «حزب الله» إلى حركة «طالبان»، مروراً بما بينهما من جماعات، وصولاً إلى إنهاء إيواء قادة تنظيم «القاعدة». والثاني، يذهب من وقف تهديد الملاحة الدولية إلى سحب القوات الإيرانية من سوريا وكل بلدان المنطقة، فضلاً عن وقف دعم الحوثيين في اليمن وأنشطة «فيلق القدس» خارج الأراضي الإيرانية، وصولاً إلى «احترام سيادة العراق»، كإشارة أميركية إلى وجوب استيعاب الرسالة السياسية التي خرجت أخيراً من صناديق الاقتراع. تبقى مداخلات ترامب وبومبيو في إطار المقاربة الأميركية البحتة لـ«المشكلة الإيرانية»، أي في إطار المصالح الأميركية. لذلك ظلّت بعيدة عن كشف الأدوار الإيرانية في تفكيك الدول والجيوش كما في مأسسة الإرهاب عبر الميليشيات. ذاك أن طهران استغلّت ضعف إدارة أوباما للتمكّن وتستغلّ الآن صقورية إدارة ترامب لتأكيد أنها لم تعد تتحرج من إظهار أنها طرف إقليمي مخيف قادر على التخريب.