في العدد الأخير من إحدى الدوريات العلمية المرموقة (Science) حذر فريق دولي من العلماء، من تفاقم ظاهرة زيادة قدرة الفطريات على مقاومة الأدوية والعقاقير الطبية المتاحة لعلاج الأمراض المعدية الناتجة عنها، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة مماثلة في عدد حالات العدوى، وربما التسبب في أوبئة. وبنى الفريق الدولي تحذيره هذا، بناء على دراسات قادها علماء «إمبريال كولديج لندن» وعلماء جامعة «إكستر» البريطانية، وأظهرت حدوث زيادة عالمية هائلة في مقاومة العقاقير المضادة للفطريات، خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. وبالنظر إلى حقيقة أن الأمراض الفطرية المعدية، تتميز بمعدل وفيات هو الأعلى بين جميع أنواع الأمراض المعدية، تصل في بعض الأحيان إلى 50 في المئة، يشكل هذا التزايد في قدرة الفطريات على مقاومة سبل العلاج المتاحة خطراً صحياً دولياً. ومما يزيد الموقف سوءاً، الزيادة المماثلة في عدد الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض الفطرية المعدية، مثل المرضى المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة «إيدز»، وكبار السن، ضمن ظاهرة «تشيخ المجتمعات» أو ارتفاع متوسط أعمار أفراد المجتمع، بالإضافة إلى المرضى المحجوزين للعلاج في المستشفيات نتيجة أمراض وعلل أخرى، أو لإجراء جراحات وغيرها من التدخلات الطبية. ويعتبر المرضى المحجوزين في العناية المركزة بالمستشفيات، ومن خضعوا لعمليات نقل وزراعة الأعضاء، والمصابين بالأمراض السرطانية، ضمن الفئات الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض الفطرية المعدية، والوفاة بسببها، بسبب ضعف جهاز مناعتهم وعدم قدرته على مكافحة العدوى بالشكل الطبيعي. ويتجسد هذا الموقف بشكل جلي مع أحد أنواع الفطريات (candida auris) والذي يصيب مرضى المستشفيات، ويشكل خطراً داهماً على مرضى العناية المركزة، بسبب قدرته على مقاومة إجراءات التطهير والتعقيم الروتينية المستخدمة في المستشفيات، بالإضافة إلى قدرته ليس فقط على مقاومة نوع واحد من أنواع العقاقير المضادة الفطريات، بل مقاومة عدة أنواع في نفس الوقت. ويوجه العلماء أصابع الاتهام خلف تزايد ظاهرة قدرة الفطريات على مقاومة الأدوية والعقاقير الطبية المستخدمة لعلاج الأمراض المعدية التي تنتج عنها، إلى استخدام المزارعين لنفس هذه المركبات الكيميائية لرش محاصيلهم الزراعية لحمايتها من نفس هذه الفطريات، أو للتخلص منها في حال تحولها لآفات زراعية. وهو ما يعني أن طائفة العقاقير المضادة للفطريات، بالإضافة إلى استخدمها بشكل محدود من قبل الأطباء في العيادات والمستشفيات، يتم استخدامها أيضاً، وإنْ كان على نطاق واسع، من قبل المزارعين والفلاحين. وتتماثل هذه الظاهرة مع ظاهرة ازدياد مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، والتي أصبحت ترتبط بفرط استخدام هذه الطائفة من العقاقير الطبية في إنتاج الغذاء. فمن الحقائق المثيرة التي تربط عالم الطب بعالم إنتاج الغذاء، هي كون أكثر من نصف الاستهلاك العالمي من المضادات الحيوية يستخدم في تربية الماشية والطيور الداجنة بأنواعها المختلفة، وأحياناً ما تزيد هذه النسبة على النصف بكثير. ففي الولايات المتحدة مثلاً، في الوقت الذي يستخدم فيه 3400 طن سنوياً من المضادات الحيوية في الأغراض الطبية، نجد أن قطاع تربية الماشية ومزارع الدواجن يستهلك 8900 طن سنوياً، كما أظهر تقرير نشر في 2001 أن 70 بالمئة من المضادات الحيوية التي تصنع وتنتج في الولايات المتحدة، تستخدم لغرض تسمين الحيوانات والطيور. ويتفق الرأي على أن الخروج من الأزمة الحالية، وتجنب كارثة مستقبلية، لا بد وأن يكون من خلال محورين؛ الأول هو وقف فرط استخدام، وإساءة استعمال، مضادات الفطريات، وباقي أنواع المضادات الحيوية، ليس فقط من قبل المزارعين، ومربي الدواجن والماشية، وإنما أيضاً من قبل أفراد الطاقم الطبي، والمرضى أنفسهم. ويرد جزء كبير من الأزمة الحالية، والكارثة المستقبلية المتوقعة، إلى الفشل خلال العقود الأخيرة في اكتشاف أو تطوير أنواع جديدة من مضادات الفطريات ومن المضادات الحيوية، حيث تم اكتشاف أحدث وآخر مجموعة من المضادات الحيوية منذ نحو ثلاثين عاماً. ومما زاد الطين بلة، أن العديد من شركات الأدوية الكبرى، انسحبت تدريجياً من مجال اكتشاف وتطوير مضادات حيوية جديدة، بعد أن ظهر مدى ارتفاع تكلفة الأبحاث في هذا المجال، وضعف العائد والربحية. ولذا يرى الكثيرون أن المحور الثاني في الخروج من الأزمة الحالية، يتمثل في زيادة الاستثمار في الدراسات والأبحاث الطبية الرامية إلى اكتشاف أنواع جديدة من هذه الطائفة الحيوية والبالغة الأهمية من الأدوية والعقاقير الطبية.