تتسارع الأحداث بصورة دراماتيكية في شبه الجزيرة الكورية، لتعيدنا إلى عام 1989 عندما سقط سور برلين معلناً بداية توحيد الأمة الألمانية، لتصبح أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، ورابع أكبر اقتصاد عالمي ضمن مجموعة العشرين. ومع اختلاف الظروف المحلية والدولية في الحالتين الألمانية والكورية، إلا أن هناك قواسم تاريخية ووطنية واقتصادية مشتركة، تساهم في تقريب وجهات النظر بين الطرفين. هذه العوامل المشتركة تدفع بالطرف الأغنى والأقوى اقتصادياً إلى تحمل تكاليف الاندماج من وجهة نظر بعيدة المدى، متوقعاً تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة في المستقبل، وهو ما حدث في ألمانيا الموحدة عندما تحملت ألمانيا الغربية التكاليف الباهظة للاندماج الاقتصادي، في سبيل الاستفادة من الطاقات البشرية المؤهلة، والموارد الطبيعية لألمانيا الشرقية، بهدف إقامة اقتصاد ألماني أكثر قوة وازدهاراً. الفوارق نفسها تنطبق على الكوريتين، فكوريا الجنوبية تحتل المرتبة الثانية عشرة ضمن أكبر اقتصاديات العالم، كما يتمتع السكان بموسط دخل كبير يبلغ 32 ألف دولار سنوياً، مقابل اقتصاد متخلف في الشمال، ومستويات معيشية منخفضة لا يتجاوز فيها نصيب الفرد من الدخل 1400 دولار فقط، وهو واحد من أقل معدلات الدخل في العالم. أما الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية، فقد بلغ 1400 مليار دولار في عام 2016، وهو ما يعادل 86 ضعفاً الناتج المحلي للشمال البالغ 16.2 مليار دولار فقط في العام نفسه. وفي الوقت الذي تعتبر فيه كوريا الجنوبية سادس أكبر مصدر، وسابع أكبر مستورد في العالم، بتبادل تجاري متنوع للغاية، فإن تجارة الشمال تعتمد بصورة أساسية على السوق الصينية، والتي من دونها يمكن لاقتصادها أن ينهار تماماً. أما الفارق العلمي والتقني في المجالات المدنية، فإنه لا يمكن مقارنته بين الطرفين، علماً بانهما كانا على المستوى نفسه اقتصادياً قبل خمسين عاماً مضت، وذلك قبل أن يلتزم البلدان بنهجين مختلفين، وتتسع الهوة بينهما، كما هي الحال تماماً بين الألمانيتين بعد الحرب العالمية الثانية. بالتأكيد الصعوبات والعقبات في الحالة الكورية ستكون أكبر وأكثر تعقيداً في حالة الاندماج، فالعقلية الشرقية العاطفية تختلف تماماً عن العقلية الأوروبية البراجماتية، مما يعني أنه ربما يكون هناك وقت طويل للتدرج بدلاً من الوحدة الفورية، كما هي الحال في التجربة الألمانية، إلا أنه حتى هذا التدرج سينجم عنه قيام كوريا الموحدة في نهاية الأمر، وهو ما يعني ولادة دولة قوية اقتصادياً ستصبح من البلدان العشرة الأولى ضمن مجموعة العشرين، خصوصاً وأن كوريا الجنوبية من القوة والإمكانات الاقتصادية التي تجعلها قادرة على تحمل أعباء الوحدة، والدفع باقتصاد الدولة الموحدة نحو آفاق جديدة. هنا بالذات ستتكون عملية اندماج بين اقتصاد قوي يتمتع بقدرات تقنية وعلمية متطورة وبين اقتصاد يملك موارد طبيعية وقدرات بشرية يمكن إعادة تأهيلها لتشكل دافعا قوياً للاقتصاد الجديد، إذ سيرتفع سكان كوريا الموحدة إلى 76 مليون نسمة، وهو مقارب جداً لعدد سكان ألمانيا البالغ 80 مليون نسمة، مما يحول كوريا المندمجة إلى قوة اقتصادية تضاهي اليابان في القارة الآسيوية وألمانيا وبريطانيا وفرنسا في القارة الأوروبية. ومع أنه من غير الممكن التكهن بتقلبات مزاج الرئيس الكوري الشمالي، إلا أن التقارب الأخير يشير إلى قدرة الصين في توجيه بوصلة المسار في كوريا الشمالية، فالتقارب الأخير جاء مباشرة بعد زيارة كيم جونج أون لبكين، والتي أعلنت بنفسها عن التوجه الجديد لكوريا الشمالية، بما في ذلك تخليها عن أسلحتها النووية وتصرفاتها غير المقبولة في العلاقات الدولية، إذ أن للصين مصالح اقتصادية واستراتيجية تدفعها للمحافظة على الأمن والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وهو ما يعني أن الكلمة الحاسمة في ملف الوحدة أو الاندماج الكوري برغم صعوبة تصور تحقيقه حالياً ستحدده المصالح، بما فيها الكورية والصينية والأميركية.