كما لو تكتب رواية وتحوّلها إلى واقع حي تدخله وتغيّره، وتتغير معه، أنت والعالَم. هذا هو كتاب «أسس النانو واستخداماتها» الذي يصدر في 500 صفحة بالإنجليزية مطلع الشهر المقبل. مؤلف الكتاب «منير نايفه» الذي تعتبره المراجع العلمية العالمية من رواد تقنيات «النانو». و«النانو» تعني واحد من المليار، أي «النانو متر» جزء من المليار من المتر، و«النانوغرام» جزء من المليار من «الغرام». والتحكم بالمواد والعمليات على مستوى «النانو» يُحدث تغيرات في الحياة والأعمال تتجاوز ما أحدثه «الكومبيوتر»، ذلك لأن تقنية «النانو» تُغيّر أجهزة وعمليات الكومبيوتر نفسها. وكما في جميع منعطفات الحضارة البشرية، كانت البداية في كلمة بشّر بها العالم الأميركي «فاينمان» الحاصل على «نوبل» في الفيزياء عام 1965: «هناك متسع كبير في القعر». وقد رأى «فاينمان» في «قعر» المادة إمكانات التحكم مباشرة بالذرات المنفردة، واقترح استخدام معدات كبيرة لإنتاج معدات أصغر، نستخدمها بدورها لإنتاج معدات أصغر منها. وقال: «لم يفعل ذلك أحد من قبل لأن أحداً لم يحاول الالتفاف حول ذلك». وتساءل: «إذا كان تحطيم الذرة أنتج الطاقة النووية والقنابل الذرية، فماذا يحدث إذا استطعنا التحكم بحركة الذرات وتغيير مواقعها، وإعادة ترتيبها كما نشاء؟». «نايفه» يقوم في كتابه بعملية التفاف عظمى، شارك عملياً في مراحلها المختلفة، منذ مولدها، عندما التقط ذرات منفردة، واقتنصها من فوق سطح المادة، واستخدمها للكتابة بالذرات. واشتهر عالمياً عندما رسم صورة قلب وداخله حرف P، الحرف الأول من كلمة «الفيزياء» بالإنجليزية. احتلت الصورة أغلفة المجلات العلمية العالمية، وثارت ردود أفعال متضاربة عندما ذكرتُ في تقريري المنشور عن الحدث عام 1994، أن الحرف يمكن أن يرمز لفلسطين، التي يبدأ اسمها بالإنجليزية بحرف P أيضاً. زملاء «نايفه» العرب حذّروا مولولين: «راحت عليك جائزة نوبل يا نايفه»! وما بين الجد والهزل، كانت «النانو» تجتذب استثمارات خاصة وحكومية بمليارات الدولارات، وتطلق ثورة صناعية جديدة تنتج أنسجة ذكية لصنع ملابس خفيفة مضادة للرصاص، أو غير قابلة للاتساخ، ووقود لا يلوث البيئة، وجواهر، ومعادن نادرة، وعظام بشرية تستبدل العظام التالفة، وعقاقير متقدمة تقضي على الخلايا السرطانية، وآليات منمنمة تحدث فتوحات في إنتاج خلايا شمسية شبه مجانية، وإلكترونيات تستوعب المعلومات من دون حدود. وينفرد كتاب «نايفه» عن مؤلفات تقنيات «النانو» الأكاديمية العالمية بذكر الدور الرائد للعرب والمسلمين في صناعات «نانوية» منذ القرون الوسطى. الخزّافون العباسيون والفاطميون كانوا قادرين منتصف القرن التاسع الميلادي على الاستفادة من المواصفات البصرية لمساحيق المعادن بطرق أكثر مهارة، وتطوير تقنيات كيماوية جديدة أتاحت لهم إبداع تركيبات نانوية معقدة أدت إلى ظهور الخزف المزجج ذي التأثيرات البصرية الأخاذة، والزجاج المتدرج الألوان. ووجود أنابيب النانو الكاربونية في تركيب السيوف الدمشقية منحها مواصفات استثنائية. و«نايفه»، الفلسطيني المولد والنشأة، يعمل غريزياً في «النانو» وبـ«النانو» وكـ«نانو» منذ فتح عينيه على الحياة في عائلة مزارعين في قرية «شويكه» بقضاء طولكرم، وحتى أصبح أستاذ الفيزياء في جامعة «إيلينوي» بالولايات المتحدة، وهناك في مختبره شاهدتُ لأول مرة في حياتي، الذرات المنفردة التي استخدمها في أصغر كتابة في التاريخ. وتابعتُ مشاريعه للاستثمار في «النانو»، وإطلاق زمالات جامعية في «النانو» للطلاب العرب، وساهمتُ بمؤتمرات «نانو» عقدها في نابلس بفلسطين، وفي «مصدر» بأبوظبي. و«سواء تعلق الموضوع بفلسطين أم بالذرة، فبالقلب وحده يستطيع المرء أن يرى بشكل صحيح، فالشيء الجوهري لا يُرى بالعين»، قال ذلك الأديب الفرنسي «أنطوان دوسان إكزوبري» وبه استشهدتُ في فصل عن «نايفه» من كتابي «حكايات سندباد علمي»، نشرت فصولاً منه مجلة «العربي» الكويتية عام 2000.