من الكتب القليلة التي طالعها المرء حديثاً وبعد مدة طويلة، عن التحليل الاجتماعي لقواعد حركات التحرير الوطنية، جاءني كتاب غازي الصوراني من غزة، رغم طبعه في القاهرة، باسم «التحولات الاجتماعية والطبقية في الضفة الغربية وقطاع غزة». وكان هذا شائعاً على نحو ما بشكل أكبر بين حركات التحرير الأفريقية، ولفت النظر الجدل الواسع فيها حول النظام العنصري في جنوب أفريقيا، فيما سمي بـ «الاستعمار ذو الوجه الخاص»، في محاولة لفصل الطبقة العنصرية الحاكمة ودولتها عن المجتمع الأفريقي وطبقته العاملة مصدر الإنتاج والثروة، والمعزولة أحياناً عن الحركة الوطنية نفسها، كما نشأ جدل خاص آخر بين مفكر مثل «أميلكار كابرال» في غينيا بيساو، مدافعاً عن دور الطبقة الوسطى الصغيرة في التنمية مع الثورة وبعدها، بينما طرف آخر في أنجولا وموزمبيق، يهاجمون الحركات القائمة على التعاون مع فئات البرجوازية الصغيرة هذه.. بينما شغلت قضية العنصرية والطبقية في جنوب أفريقيا، وهو الصراع الذي وضع تحالف «حزب المؤتمر الوطني الأفريقي» في مأزق مع جماهيره المعادية بالجملة للبيض ودولتهم المتميزة. أقول ذلك لأني عثرت على الجهد المتميز – والعربي الفلسطيني هذه المرة، بقلم غني بالإنتاج الفكري عن واقع شعبه في عشرات الكتب، كان أحدها ذلك الكتاب عن «التحولات الاجتماعية والطبقية في الضفة وغزة». ومنذ البداية، يطلق غازي الصوراني مقولته عن استحالة قيام دولة تحرر وطني من دون تحليل اجتماعي سياسي متين. ويطلق غازي الصوراني نيرانه مبكراً على عزلة «القوى السياسية» الحديثة عن المجتمع الحقيقي، وكيف أنها أصبحت في الغالب صنيعة العلاقات الخارجية، ومصادر تمويل الفئات الكومبرادورية- التابعة، لتسيطر على اقتصاد اندماجي في الرأسمالية العالمية، ولتأخذ في فلسطين وضع الطبقة الحاكمة، ولا نقول بـ «الدولة الوطنية» حتى ذات الطابع الخاص- هنا تنتفي العلاقة العضوية بين تكوين الطبقات الاجتماعية بمعناها الحقيقي وبين الدولة ذات الطابع الحقيقي أيضاً. وهذا الفاصل يفعله دائماً المستعمر المحتل، وكان من أساليب إسرائيل الدائمة لتدمير عناصر التوحيد في المجتمع الفلسطيني، وإذ بنا - في وضع الضفة وغزة - المؤسف الآن أمام مشروع دولة كمبرادورية تسيطر على المجتمع، يسمونها في الضفة دولة الحكم الذاتي المدني، والمرتبطة عملياً بالرأسمال العالمي والحلول الأميركية والإسرائيلية، باسم الدولة الحديثة، وفي غزة برجوازية تجارية وصغيرة، يصفها غازي الصوراني بأرقام وتحليلات جاذبة لنذهب معه إلى ظروف تأسيس الدولة الدينية والإسلام السياسي، وفي الضفة وغزة معاً، ينكشف ما بدأناه عن تعريته لمفهوم الدولة في ظل حركة تحرير حقيقية، وموقفها في ظل أوضاع طبقية مشوهة.. وفي جملة مهمة يقول غازي، أصبحت الدولة في الضفة وغزة هي «دولة سلطة» تتبع حزباً، وليست سلطة ذات سيادة، أو حكومة على نمط الأعراف الدستورية الديمقراطية خاصة بعد 2007. لا مجال في هذا المقال لعرض كل التحليلات المهمة التي يقدمها غازي الصوراني عن أعداد السكان، وتوزيعهم الجهوي، والريفي والحضري، وملاحظات بديعة عن عودة فئات مثل الفلاحين إلى تكوينات عائلية بديلاً عن تطورها إلى تشكيلات الحركات الاجتماعية الحديثة التي عرفتها فلسطين لفترة، والتي انتهت إلى أن الجزء الأكبر من الضفة الغربية هو الذي يتريف، يتخذ طابعاً ريفياً في وجود 30 قرية، بينما غزة تحقق تقدماً حضرياً، في (12) قرية. أما البرجوازية الصغيرة، فتحصل على قدر من التسفيه في رأي غازي الصوراني الهجومي نقيضاً لنص «كابرال» الدفاعي. ويرصد «غازي الصوراني» الكثير من التحليلات الاجتماعية التي يعرف بها القارئ، وهي مهمة بالفعل، أمثال سمير أمين، وجلبير شقير، وإبراهيم العيسوي أو تقارير الأمم المتحدة ومنظماتها الاجتماعية (صحية وعمالية...) بما يصل به لأقرب تواريخ إصدارها. يبقى جدل خاص لا يتحمله هذا المقال على أهميته وهو بحث غازي الصوراني عن البدائل المستقبلية المحتملة، وأفكار التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين شقي الرحى (الإمارة الإسلامية في غزة) والحكم الذاتي الموسع في الضفة الذي يقبل بحل الدولتين، وفق سند من رأسمالية المحاسيب (ص93)، تقوم على تجديد التخلف أو إعادة إنتاجه بدلاً من الكثير الذي نشروه عن آمال ما بعد أوسلو. لكن غازي يشير إلى «جوندار فرانك» وتعريفه للبرجوازية الرثة التي عرفتها في أميركا اللاتينية وسببت تأخرها لفترة طويلة. قبل الختام، أحيل القارئ إلى مجمل الكتاب، كما أنصحه أن يكمله بموسوعة أخرى لغازي، عن المشهد الفلسطيني الراهن، فهي الموسوعة التي تضع المواطن العربي بالفعل أمام التأثير المدمر لفصل الوطني عن الاجتماعي في فلسطين بعد تشوه المجتمع بهذا الشكل الذي يهبط بسقف الآمال عند الصوراني، قائمة علي جبهة وطنية ديمقراطية‏? ?حقيقية.