سبّاقاً، كعادته منذ ولادته، قوياً ومميزاً على مستوى الطرح، والرؤية والمنهج.. هكذا هو مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الذي أدخل إلى الوطن العربي على نطاق واسع، دراسة«استشراف المستقبل» من خلال الكتب التي أصدرها والمؤتمرات التي عقدها، وجاءت بعد أكثر من عقدين مراكز بحثية متعددة ومتنوعة، بعضها غير مؤسس، اهتمت باستشراف المستقبل، فأفرغته من معناه ـ قد يكون ذلك من غير قصد ـ وتحول إلى خطاب يجمّل دراسات المراكز البحثية، ويُضخّم من دور النخب الثقافية والسياسية، ويقوِّي من استهلاك وسائل الإعلام للمصطلح، الأمر الذي أوجد حالة من الخوف من كل التوقعات المتعلقة بالمستقبل. اليوم، وفي مؤتمره الثالث والعشرين ـ الذي عقد في اليومين الماضيين 20 ـ 21 مارس الجاري ـ نقلنا مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية من استشراف المستقبل إلى دراسته عملياً في مختلف المجالات، من خلال أربعة محاورـ اعتمدت كنماذج ـ الاقتصاد، والتغيرات الطبية، والسياسة والعلاقات الدولية، وتكنولوجيا المستقبل، شارك فيها عدد من الباحثين من مؤسسات أكاديمية وجامعات مرموقة، ومن ثقافات وتجارب مختلفة، من منطلق أن الدراسات المستقبلية أصبحت من الضروريات التي لا غنى عنها للدول والمؤسسات، وحتى الشعوب، وقد كشفت كل الأوراق البحثية التي قدّمت أهمية تلك الدراسات للمصير الإنساني، لأنها ـ في نظري ـ تخرج الإنسان من الغفلة، ولكنها أيضاً تجعله يواجه أمرين خطرين، هما: الأول: انشغاله بذلك المستقبل المجهول قدرياً في معظم جوانبه، والمعلوم في بعض من جوانبه حسب توقعات العلم، المحقة في كثير منها، اعتماداً على الحقائق التي عرفناها، وحين يعود الإنسان ليتأمل حاضره يجده أصبح ماضياً، وهذا يوصلنا في النهاية إلى فقدان بعد زمني مهم هو الحاضر، مع أننا نعيشه عملياً على مستوى الوقائع، وهكذا سيتحول البشر قريباً إلى كائنات ثنائية الأبعاد من الناحية الزمنية، أي أنها ستكون مشاريع غير مكتملة. الأمر الثاني: الخوف من المستقبل، على أن الإنسان المعاصر سيكون جزءاً منه، مع أن المعروف لدينا أن نتائج الدراسات المستقبلية اليوم، التي تتعلق بما سيحدث خلال فترة تمتد من خمسة عقود إلى قرن من الزمن مثلاً، هي خاصة بأجيال أخرى، قد لا تكون لغالبية سكان الأرض اليوم صلة بها، لأن السبعة مليارات الموجودة الآن، سينتهي العدد الكبير منها خلال خمسين سنة من الآن، وأما بعد مئة عام فلن يبقى أحد من الذين يعيشون اليوم على الأرض حياً. وعلى خلفية الخوف من رحيل الزمن الحاضر من عمر البشرية بسرعة إلى الماضي من جهة، وحضور المستقبل البعيد بسرعة أكبر من جهة ثانية، وتوسع دوائر الخوف لتشمل كل المجالات في حياتنا، حيث الإرهاق الواضح للبشرية اليوم من قضيتين جوهريتين، وعلى خلفياتها تقع كل الحروب ويعم الفساد، وهما:«الإطعام من الجوع، والأمان من الخوف»، يطرح السؤال الآتي: ما جدوى الدراسات المستقبلية؟ لاشك أن الدراسات المستقبلية مهمة وضرورية، وغيابها في الوقت الراهن عن استراتيجية أي دولة، يعني اختيارها للعيش خارج العصر من جهة، وتخلِّيها الطوعي عن وجودها المستقبلي من جهة ثانية، لكن يجب أن لا تتحول لدينا ـ فهماً وتطبيقاً ـ إلى قدر محتوم، والدليل على ذلك العجز البشري علمياً على توقعات راهنة تتعلق بالساعة أو اليوم، فما بالك بتوقع أحداث ستقع في سنين عددا؟! الدراسات المستقبلية مهمة لجهة تحقيق سلطان العلم، لكن ونحن نسعى لذلك علينا أن ندرك أن زرع الأمل يبدأ من إزالة المخاوف، وذلك لن يكون إلا بالإيمان.