بينما كان يعيش كثير من المحللين في أصداء نغمة الطموح الإثيوبي لتكون إحدى القوى الإقليمية الكبرى، ويساعد التحليل في هذا الاتجاه بحكم عدد سكانها، ومشروعاتها الاستثمارية الكبرى، وسد النهضة أحدها، لتكون في النهاية قاعدة كبرى أيضاً للاستثمارات الأجنبية، وهذه الأخيرة لا تأتى إلا لدول مستقرة أو ناهضة كنموذج للدولة الوطنية متوازنة القوة الاقتصادية والسياسية. ورغم كل التحفظات على مستوى الأداء الاقتصادي والفقر المدقع للشعب الإثيوبي، وإذ بموضوع «سد النهضة» يصبح علامة - وحده – على النهوض، وتصدُّر الجاذبية للاستثمارات، وفق حملات إعلامية غربية بل و«عربية» حول مشروعات زراعية، وإنتاج للطاقة لا حدود لها! في الوقت الذي كشفت فيه التصريحات الأميركية الأخيرة عن قلقها منذ 2006 من احتمالات اضطراب الموقف بسبب الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وكتبنا هنا عن عجرفة القوة في إثيوبيا، كما رشحها أحدهم مؤخراً في المصادر الأميركية «لتحولها لدولة فاشلة»، كانت تعتمد عليها الولايات المتحدة كمركز قوي لمواجهة منظمة «القاعدة» الإرهابية، خلافاً لـ«داعش» في الشرق الأوسط. لم ينتبه كثيرون لعناصر هذا الفشل الذي ينهش في الجسد الإثيوبي، نتيجة سيطرة تحالف حاكم على 100% من مقاعد البرلمان منذ عام 2012 بسبب مقاطعة واسعة من عناصر المعارضة، وحتى انضمام المناطق الصومالية إلى قائمة المتمردين ضد الحكم وضد قوة عرقية قوية مثل «الأورومو» الثائرين أنفسهم. كان الكثيرون يتصورون أن مصدر الضعف هو تنافس «الأمهارة» مع «الأورومو» من أجل طلب السلطة السياسية، وبسبب ضعف حضور «الأورومو» في أجهزة الحكم، بينما هم أغلبية السكان، وقاعدة الجندية في الجيش، فإن السلطة بقيت متمركزة في يد «التيجراي» الأقلية الواضحة في البلاد، والتي راحت تعتقل الآلاف، وتقتل المئات، وتهجر الملايين. كان الرئيس «هيلا مريام ديسالين» على ما يبدو، من تطور الأحداث الأخيرة إلى حد إعلان استقالته المفاجئة للبعض، هو الذي يدرك أبعاد أزمة الحكم الرئيسية، متمثلة في مظاهرات وتمردات في أنحاء البلاد، وبين مختلف الأعراق؛ بمعنى أن الكتل الاجتماعية ومطالبها ليست مجرد المشاركة السياسية «في الحكم...فهؤلاء المضربون، والذين باتوا يحاصرون العاصمة نفسها، أو يقطعون الطريق إليها، هم الذين يدفعون الساسة للإعلان عن مطالبهم الاجتماعية في الأرض وأحوال المعيشة البائسة. لأن الجزء السياسي بدأت ترضيته منذ فترة بالإفراج عن عدد من المسجونين (ولنتصور الإفراج عن 6000 مسجون سياسي لمجرد الترضية الأولية!). كما أنه تحدث مؤخراً فقط عن عدم رضائه عن تحكم بعض أطراف تحالفه الحاكم (الجبهة الشعبية الديمقراطية الثورية الإثيوبية ‏EPRDF )، الذي ?يضم ?أحزاباً أربعة ?يتحكم ?فيها ?أبناء «التيجراي» ?المسيطرين ?على ?المشروعات ?وأجهزة ?الحكم ?العسكرية ?والأمنية، ?وبدأوا ?يخططون ?لمشروعات ?التوسع ?والطموح ?ممثلاً ?في ?ملء الفضاءات ?المحيطة ?بأديس ?أبابا ?وتهجير أصحابها «?الأورومو» ?إلى ?مساحات ?أخرى ?بعيدة?، ?كما ?بدأت ?عمليات ?التهجير ?تشمل ?الصوماليين ?في ?شرقي ?البلاد?، ?لتخفيف وزنهم ?السكاني، ?إلى ?مناطق «?الأورومو» ?نفسها ?بما ?شل ?حركة ?الرعي ?والزراعة، ?ولتتركز ?المشروعات ?المائية ?حول ?«سد ?النهضة»، ?وليس ?من ?أجل ?مصالح ?السكان، ?مما ?وضع ?الجميع ?في ?حالة ?إفقار ?واسعة، ?رغم ?حديث ?الهيئات ?الدولية ?عن ?8 ?و ?10 ?% ?كمعدل ?نمو (لا ?تنمية ?طبعاً). هكذا عندما يحتك الاجتماعي بالسياسي، يختل نظام الدولة ونخبتها الحاكمة، لأن المألوف عادة أن الدول النامية تحاول العمل على بعض الترضيات الاجتماعية لشغل الجماهير، ومساندة طموحات العسكر أو الطوائف، أو لكسب قوى المعاناة الاجتماعية التي تشكل القاعدة الانتخابية. لكن ها هو الرئيس «ديسالين» يبدو هو وحده الذي أدرك هذه الحقائق، فرأى التنحي معلناً عن عجزه عن الإصلاح الديمقراطي والاجتماعي، وهو المعروف بأنه غير حاسم، وأنه من أقلية بروتستانية وسط أغلبية أرثوذكسية، وكتلة النخبة الموالية له في مكتب الحزب أو مجلس الوزراء لا توافق على خطة الإصلاح، كما لا تؤيد مقترحاً بإجراء انتخابات مبكرة لخوفهم من السقوط، بل ولا يبدو ثمة اتفاق على إمكان رئاسة شخصيات مرضية لـ«الأورومو» (ليما ما جيرسا)، أو ليست بعيدة عن القوى الحاكمة حتى من بين «الأورومو» لنفس المخاوف من الفشل (أبيي أحمد)، أو تعطيل الطموحات التي يحكمها الاستبداد، أو الدعاية المبالغة حول «سد النهضة». من هنا تعمل قوى الاستبداد من الجيش والمكتب السياسي لخيارات بدائل للرئيس «ديسالين» من داخلهم، وانتهاز الفرصة لإبعاد «ليما ما جيرسا» المعارض الأشد، وتقديم «أبيي أحمد» المعتدل، ليبقى توازن السلطة في النهاية في إطار النخبة الحاكمة. والتساؤل المصري والعربي الآن: هل يتم التوافق على مصالحة بتدخل أميركي لتخفيف نمط الهيمنة السياسية، أو تحقيق توافق الأعراق، لضمان استمرار الخط السائد الآن، أم أن السيل بلغ مداه بسبب اتساع الخرق على الراتق، ليؤدي الاستبداد الإمبراطوري الإثيوبي المعروف بحكم الأقلية إلى الإطاحة بطموح دولة كانت مرشحة للنهوض؟ *مدير مركز البحوث العربية والأفريقية- القاهرة