كَثُر الحديث حول الفساد في جميع المجالات، دون أن تكون لمحاربته أي نتيجة تذكر.. إنه يستفحل اليوم، ويتحول إلى ثقافة عامة، بل هو عند البعض يمثل فعلاً مدنياَّ تَسْتوْجٌبُه حياتنا المعاصرة، لكن في حقيقة يعدُّ«فساداً حضارياًّ» بكل المقاييس، تحوَّل مع الوقت إلى واقع عملي، وحقيقة طاغية، يتباهى بها كثير ممن حق عليهم القول في الدنيا والآخرة، ولم يعد عملاً مرفوضا، بل على العكس من ذلك، فإن المقبول دوليا اليوم، هو من يجني ثمار الفساد دون أن يتحمل ولو قليلا دفع تكلفة ما يقوم به.. إنه المتمكن من التحايل، وعدم ترك أي آثار لفعلته، وحتى لو حدث ومُسِك متلبِّساً بجريمة الفساد، فكل ما حوله يحميه، بما في ذلك عنصر الزّمن، وبذلك أصبح هو الأحق بالوجود، من أولئك الصالحين، خاصة المحاربين للفساد، الذين يحملون بقِيَّةً من الخير والصّدق والفلاح والإخلاص والإتقان والجودة. وعلى خلفيّة أن الفساد أصبح في نظر المستكبرين والمستضعفين حالة حضاريَّة عامَّة، تمكَّن أهله من تبريره، بل تسويقه عبر شرعيّة غيَّرت من مفاهيمه، وجعلت مصير البشريَّة اليوم يسير على درب«سنة الأولين»، وربما قد تكون نهايتنا مآلات السابقين بعد أن عمَّ الفساد في البرّ والبحر والفضاء، مع اختلاف في حمولة الأوزار، حيث نجد أنفسنا اليوم مُثْقَلِين بحمولات هي نتاج أنواع عديدة من الفساد، أو من تبعاته المتراكمة. المدهش أنه رغم إدراكنا التام لنهاياتنا المؤلمة لا نبذل أيَّ جهد لتوقيف الفساد أو التقليل منه، بل على العكس من ذلك، يتّخذ الفساد لدينا أشكالاً مختلفة، ويأتي تبعاً لقناعات الأفراد والجماعات، ولكن لا يوجد لدى أيّ مجموعة ركناً نأوي إليه، في انتظار النجدة من الآمِرِين بالمعروف والنَّاهِين عن المنكر، أولئك الذين حُسِبُوا أقلية في زمن الأكثريات الفاسدة، بما فيها الأكثرية الدينية التي تقف معادية للأوطان، بحجة محاربتها لحكومات تراها شراًّ في المطلق، إضافة إلى هذا هناك تحوير وتزوير للديمقراطية على النحو الذي رأيناه في ترشيح حركة «النهضة» التونسية ليهودي ضمن قوائمها في الانتخابات البلدية بحجة صلاحه، مع أنه لا يمثل إلا نفسه، ولا علاقة لذلك بتحقيق المواطنة والولاء، أو تميل الطائفة اليهودية، ما يعني أن حركة «النهضة» بترشيحه توجه رسالة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، دون أن يعيب عليها «الإخوان» عبر العالم ذلك، ولنا أن نتساءل: ماذا لو فعل هذا الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي؟ بالطبع كان سيهاجم من كل جماعات التيار الديني، ألم يقتلوا الرئيس أنور السادات لأنه أقام سلاماً مع إسرائيل؟ علينا إذن، محاربة الفساد الحضاري لدى كل الأطراف والقوى، وخاصة تيار الإسلام السياسي، لأنه يبرر للفاسدين المتدثرين بلحاف الدين أعمالهم بفتاوي يعتقد عامة الناس في صحتها، ومع الوقت تتحول إلى نظام حياة، وما ترهيب الآمنين وقتلهم في العراق وسوريا وليبيا واليمن، تحت مبررات مذهبية أو طائفية أو عرقية، إلا دليلاً على تعميم العنف من منطلق أنه فعل حضاري، وهو في حقيقته همجي، لا تحكمه ضوابط الدين ولا العقل. لقد ضربنا مثلا بحركة «النهضة» التونسية، مع أن هناك حركات دينية أشد وأكثر فساداً.. لنكشف على أن الانهيار هو نتيجة حتمية للفساد الحضاري، الذي كرسته الحركات الوطنية، وقبلها الاستعمار، الذي عمل على وأد أي حركة تنويرية في الوطن العربي، ما يعني تراكم الفساد على نطاق واسع، مُتجاوزاً المواقف والقناعات والأطروحات الأيديولوجية، ومُشَرِّعا وجوده من قوته الضاربة، والقائمة على توسيع دائرة القبول والتسليم من الناس به، لذا علينا أن نحاربه من أجل النّجاة في الدَّارِيْن. (*) كاتب وصحفي جزائري