يقول الصحفي الكندي «كارل أونوريه» في كتابه «في مديح البطء.. حِرَاك عالمي يتحدَّى عبادة السُّرْعة»: «في هذا العصر الغارق في الإعلام والغنيّ بالبيانات، عصر التنقل بين القنوات وألعاب الكومبيوتر، فقدنا فنّ أَلاّ نفعل شيئا، أن نُغْلق على أنفسنا بعيداً عن ضوضاء الخارج، وعن كل ما يمكن أن يشغلنا، أن نتأنَّى ونبطئ إيقاعنا، لنخلو ببساطة مع أفكارنا..»، لكن ما أهمية أن يقول "أونوريه" هذا، ونحن في عصر السرعة؟ ظاهرياً، يبدو الكلام السابق إقراراً بواقع البشرية اليوم، ولكن في الباطن هناك حنين لزمن ولّى بالنّسبة لمعظم سكان كوكب الأرض في وقتنا الراهن، خاصة الدول المتقدمة، وإنْ كان لا يزال يُشكِّل عصر بعض القبائل البدائية القليلة، وكثيراً من أزمنة الشعوب المتخلقة، وحتى النامية حيث يتعايش زمنا البطء والسرعة معاً، ومع ذلك فإننا لو عدنا إلى زمن صدور الكتاب في طبعته الأصلية باللغة الأنجليزية عام 2004، لوجدنا أن السرعة آنذاك ـ أي في بداية القرن 21 ـ أقل مما هي عليه اليوم، مع التأكيد على أن الفارق ليس كبيراً. زمن السرعة ـ الذي نعيشه اليوم ـ يُمثِّل عبئاً علينا، ولنا أن نعود إلى الكتاب السابق، الذي ترجمه الإعلامي السوري «ماهر الجنيدي»، وصدر عن مشروع «كلمة» للترجمة ـ التابع لدائرة الثقافة والسياحة ـ أبوظبي، العام الماضي 2017، لمعرفة المزيد حول انعكاس السرعة على نشاطنا البشري في كل المجالات، يقول كارل أونوريه:«بدلاً من التفكير العميق، أو السماح للفكرة أن تنضج ببطء في أذهاننا، تقودنا غريزتنا الآن إلى أقرب عبارة أو جملة، وفي الحروب الحديثة، تجد أن المراسلين في الميدان، والخبراء في الاستديو يطلقون تخيلاتهم لحظة وقوع الأحداث، وكثيراً ما يُتَبَيّن أن أفكارهم خاطئة، لكن ذلك لا يَهم في الوقت الحاضر: من سيستجيب على الفور هو الملك في أرض السرعة..»، واتّساقا مع هذا القول، فإن صناعة القرارات السياسية في العالم ـ بما تلك المتعلقة بالحروب ـ تتم بسرعة لا ينتبه صانعوها في الغالب إلى نتائجها، على خلفية اعتمادهم على السرعة في محاولات غير مدروسة للسباق مع الزمن، تنتهي دائماً لصالحه. والمتأمل لمجمل السياسات على المستوى العالمي يجدها وليدة ما سماه "أونوريه" بـ«وسواس السرعة»، في اعتقاد منَّا بتوفير الوقت، الأمر الذي يقودنا إلى الغضب في الطريق، وفي الأجواء، وعند التسوق، وفي المكتب، وفي الإجازة، وفي قاعة الرياضة، وكل هذه الحالات وغيرها تعني أمراً واحدا، وهو كما قال أونوريه:«أننا بفضل السرعة بتنا نعيش عصر الغضب»، وهنا يطرح السؤال الآتي: مع العمل؟. الحل المطلوب للتخفيف من السرعة، هو البطء في تقييم المواقف والعلاقات والأفعال، والأشخاص، والأماكن، شرط ألا يكون ذلك نوعاً من الخمول أو الكسل، ناهيك عن أن الدين يشكل حماية لنا من طغيان السرعة، ذلك أنه في الوقت الذي يدعونا إلى تعجيل التوبة، يطلب منا عند أدائها أن يتم ذلك ببطء، أي أن حركة الحياة في المجال الروحي ترتبط بالتأني والبطء، وتلك ـ بلا شك ـ تَحُول دون إغراقنا في فوضى سرعة الفعل السياسي، خاصَّة المواقف والقرارات ذات الطابع المصيري. مهما يكن، فإن عصرنا يتميز بالغضب نتيجة السرعة، وهناك من يرى اليوم أن الدعوة إلى البطء، تعتبر حاجة ماسة لأجل تغيير مسار البشرية، وتحقيقها لابد منه لإتمام المشاريع، وتعميق السياسات، واتِّخاذ القرارات، وتَحمُّل التَّبِعات، وحماية البشرية من الهزات الكبرى المنتظرة، والسرعة ـ على ما فيها من فائدة ـ إذا أدت إلى الغضب، فستتحول إلى فعل الشيطان، وربما لذلك تلتهم نيرانُ الحرائقِ البشريِّةَ في كلّ مكان.