لا يعني نفي وجود منهج موحد لفهم الدين أنه لا توجد ثوابت يتم الفهم طبقا لها، وإلا لتم الوقوع في النسبية والشك واللاأدرية، بل والعدمية المطلقة. الاختلاف في المنهج وليس في الموضوع، والتعدد في المنظور وليس في الشيء، والاختلاف في الصياغات وليس في المقاصد. ومن ثوابت الدين روح العقيدة، أي التوحيد. وليس التوحيد شهادة باللسان فحسب، بل أيضاً شعور بالوجدان وعمل بالأركان. يبدأ بالتوحيد بين الداخل والخارج، بين الفكر والوجدان، بين القول والفعل.. منعاً للخوف والجبن، وحتى يكون للقول رصيد في الوجدان، ويكون للوجدان دليل في الفكر. ثم يتوحد الخارج بين القول والفعل وإلا كان الكلام مجانياً بلا سلوك: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ». ثم يأتي توحيد المجتمع بلا طبقات متصارعة أو فئات متضاربة أو طوائف وأعراق يستبعد بعضها بعضا، ويعلو بعضها فوق بعض. والمجتمع الصغير هو بداية الأمة الأكبر، والأمة واحدة بلا تمييز بين الأجناس والألوان والأعراق، إنسانية تتساوى فيها الشعوب وتساهم في صنع حضارتها. ومن الثوابت أيضاً روح الشريعة، وتتمثل في التقوى والعمل الصالح. لذلك كان أهم نواقض الشريعة النفاق، وقول الإنسان ما لا يعتقد، وفعل ما لا يؤمن به. والتقوى الجوانية هي الإيمان الفعلي بلا إلزام مادي، ومنه الإنفاق باليمين مما لا تعلمه اليسار، والصلاة بعيداً عن أعين الناس. والعمل الصالح هو العمل النافع للناس، تخفيف المضار، وزيادة المنافع. ومن الثوابت أيضا أن الأعمال بالنيات وأن شرط صحة الفعل صدق النية. وكذلك تحقيق الصالح العام ويتمثل في خمسة أوجه: أولها الدفاع عن الحياة ضد كل المخاطر التي تهدد استمرارها، كالجوع والمرض والعري والعطش والقتل والتلوث. وثانيها الدفاع عن العقل، فالحياة بلا عقل حياة البهائم، وأول ما خلق الله العقل، وهو مناط التكليف وشرط المسؤولية وأداة البرهان ووسيلة التصديق. وثالثها القيمة أو المعيار أو القاعدة العامة التي يشارك الناس فيها جميعاً، أي مجموع القيم البديهية الأشبه بالمصادرات والأوليات مثل «عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به» والتي سميت في تاريخ الفكر «القاعدة الذهبية». أما الوجه الرابع الصالح العام فهو الكرامة والشرف وحقوق الإنسان التي سماها القدماء «العرض». ولا نعني بالشرف هنا معناه الشعبي في علاقة الرجل بالمرأة، بل العرض الذي هو الأرض عند الفلاح، وهو الاستقلال الوطني، وهو النزاهة عند القاضي، والأمانة عند العالم، والإتقان عند العامل، والتحصيل عند الطالب. وأخيراً يتمثل الوجه الخامس في المال العام، أي الثروة الوطنية وأساليب استثمارها ضد الاستغلال والاحتكار والنهب. تلك بعض مقاصد الشريعة الثابتة التي يتوحد عليها فهم النص حتى ولو تعددت الأفهام وتضاربت الأهواء واختلفت المصالح الخاصة. وثمة قيمتان أساسيتان في حياة البشر: الحرية والعدل. الحرية للفرد، والعدل للجماعة. الحرية هي التي تجعل الفرد يراجع ويصحح ويكمل الناقص، وهي قبل كل شيء إثبات للوجود. بل إن التاريخ كله في رأي بعض الفلاسفة هو قصة الحرية. الحرية هبة طبيعية في البشر يتحركون بسببها ومن أجلها. والحرية بلا عدل قد تؤدي إلى طغيان، وإلى سيطرة القوي على الضعيف، واستغلال الغني للفقير، وهيمنة السيد على العبد. وهنا تأتي العدالة والمساواة لتعميم الحرية على جميع الأفراد، في القول والعمل والرزق. وقد ظهرت قيمتا الحرية والعدل في جميع الديانات والمذاهب والفلسفات بصيغ عديدة. مثل المحبة والإحسان، الفرد والجماعة، الأثرة والإيثار، الأنا والآخر، الهوية والاختلاف. --------------------- *أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة