لا يُجدي الحديث عن الدولة، وحصر السلاح بيدها، وزراعة وصناعة ولو متواضعة، مع الفساد في أعلى المراتب وأدناها. فكلما تأخر قمع الفساد تعددت فرص الإرهاب. تمكن الفاسدون بما اصطُلح عليه بالدولة العميقة. سيقضي الفساد على فرص إعادة البناء، والبناء ليس الطرقات والعمائر فحسب، بل وبناء الإنسان، والبداية من التعليم. نتذكر عبارة أحد الذين أتت بهم طوارئ الزمان، وصار وزيراً للتربية والتعليم، فأطلقها مغروراً: «سأُعيد تشكيل العقل العراقي»! وتشكيل العقل الذي يقصده يعني الانهيار والانحطاط. فليس في إناء صاحبنا سوى ما نرى ونسمع من تغييب العقل، وللحيص بيص (ت 574هـ): «وحسبكم هذا التَّفاوت بيننا/ وكلُّ إناء بالذي فيه ينضحُ» (الحموي، معجم الأدباء). لا يعني الفساد العبث بالمال والإدارة، بل الأخطر من هذا فساد العقل الذي أراد صاحبنا تشكيله. يخشى الفاسدون من القوي العارف بالخبايا، فالفاسدون يبحثون عمن يسيطرون لضعفه على البلاد والعباد، هذا ما فعله الغلمان مع خلفاء عباسيين، حتى صار الخليفة طوع مزاجاتهم، فهيؤوا بذلك لتسلط البويهية والسلجوقية على بغداد والخلافة معاً. لم يحترس العباسيون بتنبيه من قال في المستعين بالله (قُتل 252هـ): «خليفةٌ في قفص/ بين وصيف وبغا/ يقول ما قيل له/ كما تقول الببغاء» (السُّيوطي، تاريخ الخلفاء). أسس وصيف وبغا، وهما من غلمان عهد جعفر المتوكل (ت 247هـ)، لجيش جرار من القراهمة والقهرمانات، ما أن تخرج الخلافة من أزمة إلا وأدخلوها في أزمات. نرى هؤلاء اليوم قادةً لميليشيات وأحزاب، ويؤثرون عبر المشاعر الدينية، فصاحب العمامة البيضاء الذي يظهر، يمارس فساد العقل عبر فضائيته، متضايقاً من هتاف المتظاهرين «باسم الدين باكونا (سرقونا) الحرامية». لكنه لم يلتفت إلى رفيقه في الحزب نفسه صاحب العمامة السوداء، وهو يبيع ويشتري ذمم البسطاء، يطوف على الأرياف والقرى، ومعه خازن المال المنهوب من الدولة، يوزع لمن ينشد أهزوجة مديح، وبخزيٍ أمام الكاميرات، وكأنه يقول: هذه جماهيرنا ستنتخبنا بالدين والديمقراطية معاً! يمارس الفاسدون فسادهم بالحرص على اختيار سلطة تبرئهم جميعاً، وزير فاسد وقاضٍ فاسد، وسلطة تخشى من صولتهم. هذا ما تضامن عليه الفاسدون بعد وفاة المكتفي بالله العباسي (ت 295هـ). لم يكن الخليفة جاعلاً ولياً للعهد، لذا عندما ثقل عليه المرض أخذت الحاشية تبحث في اختيار خليفة له، لكن بشروطهم، ولما وقع الخيار على ابن عمه عبد الله بن المعتز (قُتل 296هـ)، الشاعر وصاحب كتاب «طبقات الشُّعراء»، والعارف بالأُمور، ظهر الرَّأي خلاف ذلك، فقيل للوزير: «اتق الله ولا تُنصب في هذا الأمر مَن قد عرف دار هذا، ونعمة هذا، وبستان هذا، وجارية هذا، وضيعة هذا، وفرسَ هذا، ومن لقي الناس ولقوه، وعرف الأمور، وتحنك، وحسب حساب نِعم الناس» (مسكويه، تجارب الأُمم وتعاقب الهمم). كان المكتفي في النزع الأخير، وأي فراغ من السلطة، سيقلب عاصمة الخلافة، كل يريد فرصته، فصار الاختيار على أخي الخليفة جعفر بن المعتضد، ولقبوه بالمقتدر (قُتل 320هـ)، لكن الخليفة المرشح غير مقتدر، لم يبلغ الثلاثة عشر عاماً، فردوا على الوزير: «لكنه ابن المعتضد»! فقالوا: لِمَ تأتوا «برجلٍ يأمرُ وينهي، ويعرف مالنا، وبمن يُباشر التدبير بنفسه، ويرى أنه مستقل» (المصدر نفسه). هنا تقدم أحد الحاشية مِن الكُتاب الكبار محمد بن يحيى الصّولي (ت 335هـ) ليبُرر الترشيح، فـ«عَمل كتاباً في جواز ولايته (المقتدر) واستدل بأن الله تعالى بعث بيحيى بن زكريا- عليهما السَّلام- نبياً، ولم يُكن بالغاً» (ابن الكازروني، مختصر التاريخ). إذا أخذنا هذا التبرير القديم الجديد، في ما يخص إحضار النص الديني، وطبقناه على يومنا هذا، وعلى من أخذ يبرر للفاسدين الكبار بتكفير من هتف «باسم الدين باكونا الحرامية»! فالمبدأ واحد، وإن اختلفت العبارة، كله يدخل في نطاق التحايل، وتحايل اليوم أخطر وأفجع، لأن الفاسدين أنفسهم رفعوا رايات محاربته، وشمروا السواعد للحرب عليه كذباً، حسب بيانات أحزابهم وبرامج فضائياتهم المشيدة بالفساد. تحتاج الحرب على الفساد قوة ضمير وفن تدبير، تحتاج مَن يعرف «بستان هذا، وضيعة هذا، وفرس هذا». فلا دولةَ تنهض، ولا إعمار يُعاد، ولا عقل يتشكل، إذا كان الفاسدون يجمعون بين الدين والسياسة، تحت تصرفهم المسجد والبرلمان. ليس بعيداً عما فعلته حاشية المكتفي بالله، كي لا يأتي بمَن «يُباشر التدبير»، نتذكر الإصرار على حماية القاضي الذي يتهاون مع الفاسدين، من قِبل متنفذين، قبلها عُزل محافظ البنك المركزي، واتهامه بما هم أحق به، ويؤتى بمحافظ من أهل الدار، فأي دولة يرجوها العراقي، وأي إعادة إعِمار ينتظر؟! أختم بأبي العلاء المعري (ت 449هـ): «أما العراق فعمّت أرضه فتنٌ/ مثل القيامةِ غشتها غواشيها/ وللزمان على أبنائه أبداً/ حكومةٌ لا يُردُّ الحكم راشيها» (لزوم ما لا يلزم).