إذا كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قد اقترف في عهده خطيئة ترْك سوريا لمصيرها الدامي، بعد أن أعلن في البداية عن نيته التدخل لإنهاء الحرب الإجرامية الجارية فيها، فإن خلفه الرئيس دونالد ترامب أعلن عن نقل سفارته إلى القدس، وكأن الأمر يتعلق ب«صفقة» سياسية مجانية، لا أكثر! هكذا تبدو الأمور، وعلينا أن نأخذها كما هي، مع إضافة أن الروس أصبحوا وكأنهم «الوجه الثاني» من «العملة»، في الحالة السورية وموقفهم من الثورة من أجل الحرية والكرامة والعدالة. ويبقى الخطاب الآخر القادم من الدعاوى الفارسية ليخبرنا بأن «المقدسات» الإيرانية في خطر ما يوجب علينا حمايتها من داخل سوريا، وهي المقدسات التي حماها السوريون طيلة 1400 عام! هكذا التقت «الصفقات» على الشرق العربي عموماً. وضمن هذا وذاك، كانت القدس هي عنوان الحدث الفلسطيني الجديد، الذي يُراد منه ومن الحدث السوري، ترهيب الجميع. ولاشك أننا هنا أمام تحول عميق في المشهد الإقليمي والدولي ما زال عصيّاً على الاستنفاد. فكأننا نقف أمام حالة «أبدية» من محاولة فرض التصدع والتشرذم والتشكل من جديد! ومن ثم، فلترفعوا أعلامكم البيضاء استسلاماً للأمر الواقع! وهكذا راح الخطاب الخطير، خطاب المصائر الفاجعة، تحت قبضة «الآلهة» المزيفة، آلهة المال والسلاح والتكرار الأبدي لمتاهات لعبة الأمم، على حساب شوب المنطقة. إن العالم يتداعى أخلاقياً وسياسياً، ليبقى سلاح القوة الخشنة هو سيد الموقف. وهو يبدو بحاجة إلى «بيان تاريخي جديد»! وحقاً، ماذا على المرء أن يفكر حين يسمع ما فعله الرئيس الأميركي السابق أوباما في موقفه السلبي من الحالة السورية. وبأسلوب آخر، فما الذي يفعله المتابع الآن، حين يعلم أن إسرائيل المغتصبة للأرض والكرامة، مُنحت الشرعية التاريخية عبر قرار الرئيس الحالي نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس؟ ها هنا، يبرز التساؤل الخطير عن سلبية الموقف الأميركي: هل القدس يمكن أن تعطى هدية للاحتلال؟ ألا يشعر ترامب نفسه بالاستفزاز إذا اعتدى أحدهم على بيته، أو قرر منحه لغيره؟! في هذه الحال، سأذكر، ولا أقول سأذكّر ترامب بقصة أظن أنه ومستشاريه لا يعرفونها، لأنها لا تعنيهم، تلك هي التي حدثت في التاريخ العربي الإسلامي، وكان بطلها سيد العدل والكرامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. لقد حلّ وقت الصلاة في القدس بعد فتحها، أشار إليه رجاله بأنه يمكن أن يصلي في الكنيسة. وكان جواب الخليفة ذي الإنسانية الفريدة أنه لن يفعل، لأنه إنْ صلّى في الكنيسة، فقد يُفهم من ذلك أن الكنيسة حُوِّلت إلى «جامع» لصلاة المسلمين! وهكذا يكون الخليفة المُفعم بالشرف والإنسانية واحترام حقوق الإنسان، قد أسس لحقوق الإنسان هذه ولما بعد قرون من الزمن. لعلنا ها هنا نتبين الحساسية العميقة لهذا الأمر، الذي يشكل عقبة هائلة في النضال التاريخي السابق والحديث والراهن من أجل «مبادئ حقوق الإنسان»، وخصوصاً تلك التي صدرت عن الأمم المتحدة منذ زمن كان الاستعمار والإمبريالية فيه قد سيطرا على العالم. ولكن الصراع البشري من أجل الحرية والمساواة والعدالة أثمر للعالم بعد ذلك نتائجه اللاحقة! وكي لا نصل إلى نتيجة بعيدة عن السياق التاريخي العالمي والخاص، نسارع القول إن الرهانات على التاريخ لا تأتي ولا تتبلور بالأمنيات الإنسانية النبيلة وحدها، وإنما هي نتيجة الكفاح من أجل حزمة من المثل الإنسانية المعبأة بالفعل التاريخي الملموس. ومن ثم، فبقدر ما يكون التاريخ مفتوحاً أمام البشر، فإنه لا ينسى أيضاً أن ينبههم بأن ذلك الفعل مشروط بشروط تبدأ ولا تنتهي من الكفاح والعمل والصبر الدؤوب على المظالم والجرائم والمخاطر، بحيث يأتي هذا الصبر ملفّعاً بشروط النصر المفتوح. وعلى كل حال، فهذه رسالة إلى الرئيس أوباما وترامب، وإلى الآخرين!