«ما العمل إذا رغبت بالغناء، ولكن ليس عندك صوت؟.. الجواب: إنها ليست مشكلتك، بل مشكلة المستمعين». هذه من نكات «راديو أرمينيا» المشهورة في روسيا السوفييتية، تُصوّرُ مشكلتي مع مقالات وكتب وبرامج تلفزيونية مكرسة لمئوية «ثورة أكتوبر»، وكثير منها أسير «عبادة الفرد» بشكل معكوس، تحمِِّل زعيم الثورة «لينين» جميع مساوئها، وحتى انهيارها بعد سبعين عاماً. المؤرخة النمساوية «أليزابيث هيرش» تعتبر «الثورة البلشفية» التي قادها «لينين» مؤامرة ألمانية لإثارة «الفوضى الخلاقة» لتحويل حرب روسيا معها إلى حرب أهلية. وتقول المؤرخة في مسلسل «مئوية ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى»، الذي يُقدمه «سلام مسافر» في فضائية «آر تي» الروسية، إن ثورات روسيا المتلاحقة عام 1905، وثورتي فبراير وأكتوبر 1917، فصول في مؤامرة وضعها ونفذها المغامر «بوفوس»، واسمه الحقيقي «إسرائيل لازاروفيتش»، وهو عميل لألمانيا وبريطانيا، ولاحقاً لتركيا. وتوافق المؤرخة «سلام مسافر» عندما يُذّكرها بالعوامل الموضوعية داخل المجتمع الروسي، وبالحجم التاريخي والفكري لزعيم الثورة «لينين»، لكنها تواصل سرد تفاصيل مثيرة عن اختيار ألمانيا «لينين» كزعيم للثورة، ومدّه بالأموال لتحقيقها. والدليل على عمالة «لينين» القطار الألماني، الذي حمله في حافلة مغلقة من منفاه في «زوريخ» بسويسرا، عبر ألمانيا، والسويد، وفنلندا إلى العاصمة الروسية آنذاك «بتروغراد». و«لينين في القطار» عنوان كتاب المؤرخة الأميركية «كاثرين ميريديل» التي تتحدث عن دور «قطار لينين» في أحداث الثورة، إلا أن معرفتها بروسيا، وتأليفها عنها كتب عدة، بينها «القلعة الحمراء»، و«الليلة الحجرية».. تجعلها تدرك أن «القطار» كان الوسيلة الوحيدة لوصول لينين في الوقت المحدد لانطلاق الثورة، التي غيَّرَت القرن العشرين. كانت بريطانيا قد أغلقت طريق البحر أمام عودة الزعماء الروس، واحتجزت في ميناء «هاليفاكس» أحد أبرز زعماء الثورة، وهو «تروتسكي» القادم بالباخرة من نيويورك. وتختار المؤرخة الأميركية صورة غلاف كتابها لوحة من العصر السوفييتي يظهر فيها لينين وهو يغادر الحافلة في محطة القطار في «بتروغراد» وخلفه «ستالين». وتعتبر اللوحة الخيالية نذيراً بالمتاعب القادمة. ستالين لم يكن في القطار، بل في منفاه بسيبيريا، وكان في استقبال لينين مئات من أتباعه، وبينهم زعماء البولشفيك «كامينيف» و«زينوفييف» و«سوكولنيكوف» الذين أعدمهم ستالين فيما بعد. ولن نفهم القرن العشرين ما لم نفهم الثورة الروسية، التي يعتبر المؤرخ والفيلسوف البريطاني «هوبسباوم» تأثيرها في القرن العشرين أعظم وأشد من تأثير «الثورة الفرنسية» في القرن التاسع عشر. ويذكر في دراسته «موجز القرن العشرين» أن «إحدى مهازل القرن العجيبة أن ثورة أكتوبر لم تفشل فحسب في الإطاحة بالرأسمالية، بل حفظتها في الحقيقة، حين منحت الغرب حوافز لإصلاح نفسه». وفي عام 1922 وضع لينين «السياسة الاقتصادية الجديدة» واعترف بأنها تشكل «ردة نحو الرأسمالية» لمواجهة انهيار الدولة الفتية، التي دمرتها الحرب الأهلية والحصار العالمي. ولو لم يتوف لينين بعد سنتين على ذلك التاريخ، وهو في سن الـ54، لأطلق الثورة في الثورة، والتي انتظرت طويلاً حتى فجّرَها بشكل عشوائي «غورباتشوف»، آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي. ولن نفهم القرن الحالي ما لم نفهم الثورة في الثورة الروسية. فحجم الدول السياسي والأخلاقي تقرره طبيعة تعاملها مع مآزقها التاريخية والجغرافية. وها نحن نرى عواقب تعامل دول الغرب طوال قرنين مع فلسطين، والعراق، وليبيا، وسوريا، والسودان، والجزائر. ونرى كيف تتَدبَّر روسيا مأزقها كإمبراطورية ممزقة، مكشوفة جغرافياً، انفصلت عنها 14 جمهورية، تحوّل معظمها إلى قواعد حلف «الناتو» الذي يحاصرها. «هل يمكن أن يعود الحزب الشيوعي للعمل السري تحت الأرض؟». راديو أرمينيا يجيب: «أجل يمكن، شريطة أن نوفر لقياداته الكافيار الأسود والأحمر، والكونياك الأرمني، واللحم المقدّد، والحسان، وغير ذلك من مستلزمات القيادة»! ------------------------------- *مستشار في العلوم والتكنولوجيا.