الشخص الذي نجهل تفاصيل حياته، ونعتمد على ما سمعناه عنه من الآخرين، وما هو ظاهر للعيان من تصرفاته وكونه يُعد مثالاً للإنسان المثالي في مجتمعه، لا نتردد في أن نُطلق عليه مسمى شخص خلوق أو راقٍ في تعامله، بينما نحن لا نعلم عن حقيقة وجوهر ذلك الشخص، وهل هو على سبيل المثال يظلم ولا يعدل في مكان عمله، ولربما يصرخ ويضرب ويتصرف بأنانية فائقة ولا يتوانى عن القيام بأمور تعد من ضرب الهمجية الموغلة في القدم في منزله، ولكننا غير مطلعين وقريبين منه بالقدر الكافي الذي يجعلنا نعايش تلك الممارسات، ولا نصدقها فيه ونحسب أي انتقاد موجه له نوعاً من الغيرة والحسد لكونه ناجحاً. والتضارب والتناقض هنا بأنه نفس الشخص الذي يصنف في إطار معين بأنه مهمة حضارية وأخلاقية وله مكانة اجتماعية مرموقة ومحل ثقة واحترام الآخرين وتقديرهم، قد يوصف في إطار آخر بأنه غير متحضر وليس لديه رادع أخلاقي وميت الضمير، وهو ينادي بحقوق الإنسان في العلن، بينما هو في الخفاء يمنع عاملة المنزل لديه من السفر لرؤية أبنائها لسنوات طويلة، ويهددها بقطع رزقها إن فعلت، أو هو متواضع وإنساني أمام الشاشات ومتعجرف ومتكبر خلفها! فهل الأخلاق متلونة ونسبية ووقتية وفق المواقف والظروف، أم هي صفة ملازمة للشخص المسلم، وهو يعلم أنه مراقب، وبالتالي الوازع خارجي وليس داخلياً؟ وإنْ كان داخلياً ويتصرف وفق الخوف من العقاب وعدم الفوز بنعيم الآخرة، ولكن الخوف عامل متغير ومتقلب وينتصر عليه الشخص أو يكيف عليه نفسه في بعض الأحيان، ليقوم بممارسات يحسبها مرضاة للخالق، كأن يقتل الأبرياء فقط لأنهم من ديانة مختلفة، وهو مقتنع أن فعله أخلاقي وعين الصواب. فالبشر مجبولون على حب المديح والثناء، وهذا أمر مقبول، ولكن عندما يتحول ذلك الحب لمحدد من محددات السلوك القويم من عدمه، تكون هناك مشكلة أخلاقية معقدة، فنحن مثلاً نمارس دائماً ما يتوافق ولا يخرج عن السلوك والتفكير الذي يقبله مجتمعنا وإنْ كان مهيناً للآخرين، أو نعلم أنه غير منطقي كالتمييز والتحيز العنصري، ونقوم بكل ذلك حتى لا نكون غرباء في مجتمعاتنا، وخارج دائرة البرمجة التي نشأنا عليها، وأصبحت تلعب دوراً محورياً في الأحكام المسبقة ووجهات النظر والتصورات التي نتبناها، وطريقة التفكير التي ننتهجها، فهناك شعوب ليس لديها مراجع دينية تتبعها، أو إيمان بقوة عليا تراقب تصرفاتهم، فمن أين لهم بالأخلاق التي يتفوقون بها في حالات عديدة على المجتمعات، التي تؤمن بوجود خالق؟ فتلك الحضارات ليس لها النزعة النصية ودعوى الطهرانية الأخلاقية المطلقة، بينما يعاني العالم ككل من موقف الضمير العالمي الغائب وأزمة الأخلاق الدولية، ومن جهة أخرى يُعد مفهوم القيمة الأخلاقية المثالية في القرآن الكريم لدى المسلمين مختزلاً في مصطلح التقوى، الذي ذكر في القرآن أكثر من مئتي مرة دون إغفال مسؤولياتنا كبشر تجاه الله والمجتمع الإنساني على العموم. ويؤكد القرآن أن سلوك الإنسان وطموحاته يجب أن تصب في عدم ظلم النفس والآخرين، والعمل في كل ما يساهم في تنمية قيم الضمير والوازع الاجتماعي النفعي الكلي التنموي، الذي يصب في قيم العدالة والإنصاف والمساواة وفعل الإحسان والمعروف مع كل روح تنبض بالحياة والحفاظ على البيئة. وإذا تحدثنا عن الأخلاق كنظام سلوك فيما يتعلق بمعايير السلوك الصائب أو الخطأ والمسؤولية الأخلاقية، في إشارة إلى ضمائرنا والهوية الأخلاقية، أو الشخص القادر على العمل الصحيح أو الخطأ يتحول مفهوم الأخلاق إلى قضية معقدة في عالم متعدد الثقافات ومبادئ وقيم تعكس تاريخ ومكونات كل حضارة، ودعنا نقُل إن الجميع يلتزم بمذهب أخلاقي من نوع ما حتى لدى الخارج عن القانون، الذي يسرق من الأغنياء ليشيع جوع الفقير المعدم، أو من يقول لك: «أنا لا أوذي أي شخص آخر ولكنني حر في ما أفعله بنفسي»، وذلك لتبرير الخيارات الشخصية السيئة. وتؤثر الأخلاق في قراراتنا اليومية، ويوجه ضميرنا تلك الخيارات، وبالتالي مفاهيم الحق والخطأ والعدل قابلة للتحوير والتعديل. وقد تجد حتى أولئك الذين لا يؤمنون بالله في كثير من الأحيان يلتزمون بقوانين الله كما وردت في الكتب المقدسة، كون قراراتنا تستند بصورة تلقائية لحاجتنا للبقاء والتفوق والسيطرة. وما نسميه ضميرنا يستند إلى السلوك المستفاد منه أو المتعود عليه، وليس جزءاً من التصميم الكوني المادي إن صح التعبير.