«الاستراتيجية في هذا المركز حركة وليست وضعاً، رحلة وليست مرفأً»، كتبتُ ذلك في تقرير عن «مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية» في يونيو 1997، ولم يخطر ببالي أنها استراتيجية البقاء العربي للدول والأفراد، وفي مقدمتهم الدكتور جمال سند السويدي، مدير عام المركز. فهذا الباحث الأكاديمي بالغ الوسامة والشباب (37 عاماً آنذاك)، والحاصل على شهادة الدكتوراه في علم السياسة من «جامعة ويسكنسن» بالولايات المتحدة، سيُبدع استراتيجية بقائه على قيد الحياة ومواصلة العمل منذ أخبره الطبيب البريطاني في ديسمبر عام 2003 قائلاً: «ستموت بعد أسبوعين». يذكر ذلك في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «لا تستسلم»، والذي يكتب فيه: «كنتُ أنظر إلى الطبيب بهدوء يصعب عليّ حتى الآن أن أعلم مصدره، واستمعت بدوري إلى حديثه حول ما تبقَّى لي من أيام وساعات على قيد الحياة بالتركيز نفسه الذي أستمع به إلى محاضرة علمية، أو أتلقّى به خلال عملي حدثاً سياسياً، ومن ثم أُخضعه لتحليل ونظر من كل جوانبه». «لا أمن في هذا العالم، هناك فرص فحسب»، عبارة استشهدتُ بها في مقالتي المذكورة وهي تصور استراتيجية الاستنفار في حياة «السويدي» الشخصية كما في عمل «مركز الإمارات»، الذي عقد خلال ستة شهور الأولى من عام 1997 مؤتمرات وورش عمل ومحاضرات، شارك فيها زعماء ومفكرون عالميون، حول مواضيع تعيد تشكيل العالم والمنطقة حتى اللحظة، بينها «ثورة المعلومات والاتصالات وتأثيرها في العالم العربي»، و«الخلافات الحدودية في منطقة الخليج العربي»، و«الصناعات النفطية.. القيمة المضافة»، و«أمن الخليج من منظور وطني». ويذكر «السويدي» في كتابه أن عبارة «ستموت بعد أسبوعين»، كانت «كافية لاستنفار إرادة الحياة.. السلاح الخفي الذي وضعه الخالق في أنفسنا، ومنحنا بعض المعرفة به، لكنه أوكل إلينا استخراجه في اللحظة المناسبة لنستعين به على مواجهة عوامل الموت والفناء». كان يقرأ القرآن، وأوردتُه مثقلة بالأجهزة الطبية، وتخترقها عشرات الإبر كل ساعة. فيتوقف ملياً مع قوله سبحانه وتعالى: «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد». فيشعر كأنه يقرؤها للمرة الأولى. ويشعر أن الآية التي قرأها وسمعها آلاف المرات من قبل «كانت تختزن معنى لم أدركه إلا في هذه اللحظة وحدها، ليُشرق في قلبي يقين بأن الله سبحانه وتعالى يُنبئني بأنه معي». وفتح له تدوين تجربته مع مرض السرطان باباً لتأمل حياته كاملة، واستعادة مراحلها وتحولاتها منذ طفولته في أسرة إماراتية متوسطة، تختلف عن الصورة الشائعة حول رفاه وترف الناس في الإمارات. وهدفه الأول من كتابة سيرته هو أن يقول بشكل عملي لكل مرضى السرطان ولذويهم وللمجتمع: «إن مريضاً سابقاً بالسرطان هو مَنْ يكتب ومَنْ يؤلِّف، ومَنْ يتكلم، ومَنْ يُنجز ويتعامل كل يوم مع واجبات جديدة ومهامَّ معقدة، ويدير مؤسسة كبيرة، بكل ما يعنيه ذلك من ضغوط وإرهاق بدنيّ وعقليّ، وهذا بالإمكان حدوثه مع أيّ مريض بالسرطان». وهنا «القلوب في العقول»، عبارة تَضمّنها تقريري حول «مركز الإمارات» تساعدني الآن في فهم ملحمة البقاء التي يخوضها «السويدي». ولم أرَ قبله إنساناً يقود من يتكئ عليه، ومحظوظ من يتكئ عليه السويدي الجوّال حول العالم. في عام 2014 شملت جولته المخصصة لتقديم كتابه «آفاق العصر الأميركي» 20 بلداً من البحرين والسعودية إلى المغرب وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وأميركا. وكنت تجنّبتُ منذ مرضه حتى النظر إليه في مناسبات لقائنا، ولما أطلّ بقامته المهيبة في منتدى صحيفة «الاتحاد» الشهر الماضي، وهو يقود بقوة من يتكئ عليه، شدَّ عزمي فعانقته، وقلبي يَتَقَبل التوقعات عن جائزة عالمية كبرى لجمال السويدي بالقول إن لا جائزة أكبر منه له، وهذه من عند الله.