لقد ظهرت العُهدة العمرية بمثابتها «معاهدة» فتح بيت المقدس، قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة عام، أي مع بدايات التاريخ الإسلامي وعهد الفتوحات، وكانت هنالك حالات جديدة في حياة الناس وضعتهم أمام أسئلة جديدة، مثل التالية: كيف لا نسحق كل أعدائنا، الذين يحاربوننا، فلا نترك منهم أحداً؟ ألا يشكل الأطفال والنساء استثناءً في القتل، أثناء الحروب؟ أليس من الضروري استخدام كل الطرق لقتل أعدائنا، الذين قد يستخدمون النساء والصبيان، إذ يضعونهم أمامهم كدريئة للقتل وترساً يحميهم منه؟ وأسئلة أخرى من هذا القبيل، وهكذا نجد الأمور تتبلور منهجياً، حين يأتي من يضعها في قوانين وأعراف لا يجوز مسَّها بأذى، وخصوصاً أثناء الحروب، وذلك بوصفها قواعد تحافظ على إنسانية البشر وكرامتهم. وقبل أن نتبع ذلك في سياقاته المتعددة، نجد من الضروري أن نذكر بما أنتجه العصر الحديث من قواعد وقوانين تحافظ على المدنيين المسالمين في أثناء الصراعات والحروب، وذلك بهدف المقارنة بين المرحلتين، المرتبطة منهما خصوصاً بالفكر الإسلامي من جانب، وبين الفكر الإنساني الذي نشأ في العصر الحديث من جانب آخر، وكانت البداية مع ما نهج الخليفة الأول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، في وصاياه العشر، حين ودَّع جيش أسامة بن زيد قائلاً: «يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له»، «انظر: تاريخ الطبري، ج 3، ص 226». إن هذا النص في دلالاته الإنسانية العميقة، يعود إلى أكثر من أربعة عشر قرناً، إذا ما وضعناه في سياق المقارنة مع العصور الحديثة، وخصوصاً القرن العشرين، وجدنا أنه يمثل تاريخياً وتراثياً، تأسيساً دقيقاً وأميناً لما صدر عن «اللجنة الدولية للصليب الأحمر في جنيف» بعنوان Chronids of islamic Arabhistory، وقد أتى في مقدمة الكتاب المذكور، ما يلي: «بإطلالة واعية على التراث العربي الإسلامي العريق، يتبين لنا مدى حرصه على تأكيد تقاليد الفروسية، حيث أضفى عليها صبغته الإنسانية، وحث على التقيد بها، من حيث الاحترام المتبادل، وهو في ذلك يتفق مع نصوص وروح القانون الدولي الإنساني، الذي يحتم حماية حقوق المقاتلين وضحايا النزاعات المسلحة». إن ذلك عن عهد الخليفة الأول، أما الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فنلاحظ أنه قد أرسى دعائم العيش المشترك بين المسلمين و«الآخرين» من أصحاب الأديان. فقد ظهر ذلك حين ذهب الخليفة العادل عمر بن الخطاب من الجابية بدمشق إلى القدس، فبمقتضى اتفاق تم بينه وبين النصارى، اتجه إلى بيت المقدس، ووفق معاهدة عقدها معهم، أقام مصلاة نظفها مع آخرين من الناس، وصلى بعد ذلك. والملاحظ المهم حقاً أنه كان بإمكانه أن يصلي في كنيسة القيامة، ولكنه لم يفعل، وقد سئل، لماذا لم تصلِّ داخل الكنيسة، فأجاب إجابة تتضح منها السماحة والتسامح، فقد أجاب: «لو صليت داخل الكنيسة، خفتُ أن يقول المسلمون من بعدي: هذا مُصلّى عمر، وأن يحاولوا أن يقيموا في هذا المكان مسجداً». والآن، إذا كان الأمر كذلك، أفلا نضع يدنا على مسألة التسامح والتعايش باسم الإسلام، ففي الأيام الراهنة الساخنة والمأساوية حتى الثمالة، حيث يعاد بناء الحروب الطائفية من جديد، وتأتي على الأخضر واليابس في سوريا خصوصاً! لقد «قامت القيامة» في عدد من البلدان، حين رحنا نعيش أحوالاً زائفة تدعو إلى الطائفية بكل نماذجها، التي أصبحت في هذا العالم، تستثير الآن مشهداً عربياً كئيباً، وتشغل حيزاً خطيراً من حياة الناس الآن. ونحن إذ نتكلم عن الإسلام حصرياً نعي كونه قابلاً للتأويلات العقلانية وفق مقتضيات الظروف والأحوال التاريخية، وعلى رغم عدد من التأويلات للنصوص الدينية، فإننا نرى أن تطوير الدراسات الدينية العلمية والأنساق العلمية المتعددة، مثل علم الاجتماع والسياسة والتاريخ والمناهج، له دور كبير في قراءات جديدة لتلك النصوص، وذلك حيث نضع أمامنا الأقوال التأويلية الموثقة المعبرة عن روح التسامح واحترام التعددية وحقوق الإنسان التي سبق إليها الإسلام.