بدأت الولايات المتحدة خطوات أولى لتنفيذ «استراتيجية ترامب» ضد إيران، بعقوبات جديدة تستهدف تطوير الصواريخ البالستية وأخرى تريد التضييق مالياً على «حزب الله» اللبناني- الإيراني. في الوقت نفسه يلقي الواقع الميداني في العراق وسوريا ضوءاً على تقدّم تحرزه إيران في استراتيجيتها الخاصة بالربط بين مواقع نفوذها، إذ إنها لعبت دوراً مباشراً في استعادة محافظة كركوك لمصلحة الحكومة العراقية باختراقها صفوف البشمركة الكردية عبر حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (معقله في السليمانية) الذي كان يتزعمه الرئيس الراحل جلال طالباني ويبدو أن نجله بافل هو وريثه في الزعامة وكذلك في العلاقة مع إيران. كما أن ميليشياتها خاضت أخيراً القتال الرئيسي (تحت راية النظام السوري) لاستعادة مدينة الميادين شرقي سوريا، وهي موقع مهم يمهّد أيضاً لاستعادة مدينة البوكمال الحدودية مع العراق وتحقيق الربط بين الميليشيات الإيرانية على جانبي الحدود. ولذلك يرى العديد من محللي التحركات الإيرانية أنها لا تواجه أي عقبات أمام إقامة الخط البري بين طهران وبيروت مروراً ببغداد ودمشق. وكان هذا الخط ولا يزال يطمح لعبور محافظة الأنبار، ولعله تعزّز أخيراً بحسم الحرب على «داعش» في الموصل وتلعفر ثم باستغلال أزمة الاستفتاء الكردي بوضع كركوك تحت الهيمنة الإيرانية عبر إعادتها إلى سلطة بغداد. وعلى رغم أن الحديث عن هذا الخط البري ورد باستمرار في مختلف التحليلات السياسية والعسكرية فقد كان لافتاً دائماً أن المراجع الحكومية، خصوصاً الأميركية والروسية، لا تشير إليه علناً. ولكن قائد القيادة الوسطى الأميركية الجنرال جوزيف فوتيل نبّه أخيراً إلى أن إيران «تسعى الى بناء محور من طهران إلى بيروت» وتعزيز نفوذها العسكري في سوريا واليمن والعراق. وتفيد معلومات متداولة بأن هذا «المحور» موضع بحث بين الولايات المتحدة وروسيا، وأن واشنطن مصمّمة على إحباطه في حين أن موسكو لا تضعه في أولوياتها. ماذا يعني ذلك؟ أن عدم التوافق بين الدولتَين الكبريَين يحقق لإيران مصلحة خالصة في استراتيجيتها الخاصة. فهي تجني وحدها الثمار من محاربة «داعش» ومن أزمة بغداد- أربيل. وإذ يقول الجنرال فوتيل إن البنتاغون يعمل مع «شركاء محليين» للتصدّي للدور الإيراني فلابدّ أنه يشير إلى الجيش العراقي وهذا رهان صحيح بمقدار ما هو مجازفة كبرى بسبب الاختراق الذي تمثله ميليشيات «الحشد الشعبي» وقد تمكّنت إيران من فرضها كجيش موازٍ يتمتّع بـ«شرعية» قانونية، بل فرضت مشاركته في مختلف المعارك ضد «داعش» ووجوده إلى جانب الجيش في أي مكان. كما يعوّل الجانب الأميركي على «قوات سوريا الديموقراطية» التي منحها كل الإمكانات لطرد تنظيم «داعش» من محافظة الرقّة ولمتابعة القتال ضدّه في دير الزور، غير أن هيمنة الأكراد على هذه القوات وتعمّد الأميركيين الاعتماد الجزئي أو الرمزي على العرب السوريين من أبناء المنطقة أشاعا الشكوك في النوايا الأميركية، كما في قدرة هذه القوات على مواجهة الدور الإيراني. كان تنظيم «داعش» هو الذي ألغى الحدود وربط بين «ولايتَيه»، العراق والشام، ومن الطبيعي أن يفضي إنهاء «دولة الخلافة» المزعومة إلى إعادة الحدود إلى وضعها السابق. غير أن خطط النفوذ الإيراني ترمي إلى وراثة «الحدود الداعشية المفتوحة»، وتنتهز أسوة بالتنظيم الإرهابي الفوضى في العراق وسوريا وضعف الدولة فيهما. وتجري وقائع التحرّك الإيراني علناً وتحت الأنظار، ولا أحد يستطيع القول إنه فوجئ بها أو يكتشفها الآن، ولذلك تصبح التساؤلات مشروعة أولاً عن فاعلية أي عقوبات أو إجراءات أميركية، وثانياً عن أفق الدور الروسي في سوريا بـ«شراكة» ملتبسة مع إيران، وثالثاً -وهذا الأهم- أين مسؤولية الدولتَين الكبريين؟ وهل هما معنيّتان فعلاً باحترام الحدود طالما أنهما أكّدتا مراراً توافقهما على محاربة الإرهاب؟ ويذهب التشكيك أحياناً إلى حدّ القول بأن الروس والأميركيين متفقون ضمنياً على تمكين إيران، وأحياناً على توريطها، ولا يبدو أيٌّ من الاحتمالَين واقعياً ولا الهدف منهما. فالتجربة تفيد بأن ما ترسمه إيران على الأرض تستطيع الحفاظ عليه وترسيخه بسبب اعتمادها على «شركاء محليين». ولكن المطلوب، أي الحؤول دون الربط الحدودي بين الميليشيات الإيرانية، يبقى من بديهيات المسؤولية الدولية لروسيا وأميركا، خصوصاً أنهما مدركتان خطورة أي تساهل حياله أو تلاعب به. إذ إن ترك الميليشيات تتنقّل بسهولة هو وصفة لإدامة الصراعات وإحباط أي حلول سياسية في العراق وسوريا ما لم تضمن هيمنة إيران ومصالحها.