الأكاديمي الموريتاني الأميركي الجنسية «محمد محمود ولد محمدو» قَلَب موضوع الإرهاب على رأسه، أو بالأحرى على قلبه، عندما صَدّرَ كتابه «فهم القاعدة» بعبارة الأديب الروسي «دوستوييفسكي» التالية: «هل يمكن أن يملك أي شخص الحق في أن يقرر عن بقية الجنس البشري من يستحق العيش، ومن هو أقل استحقاقاً؟.. لكن لماذا نجلب الاستحقاق لمسألة تتقرر غالباً في قلوب الرجال؟». وإحالة الموضوع للقلوب يدخلنا في فيزياء «الكوانتوم»، حيث الحوادث لا تجري في عالم ثلاثي الأبعاد، يتيح قياس أشياء، كالسرعة، أو الكتلة. يذكر ذلك «جايروس غروف»، الباحث في جامعة «هاواي»، ويضيف أن «الإرهاب المعاصر يجري وفق أبعاد المشاعر، حيث لا علاقة للسرعة والزمان بشدة عواقب الحدث». وفي كتابه الجديد «نظرية حول داعش»، يخرج «ولد محمدو»، الأستاذ بـ«معهد الدراسات الدولية والتنمية» في جنيف، عن الخطاب السائد الذي يعتبر «داعش» أخطر منظمة إرهابية في العالم، ويحيطها بأساطير وحكايات مصدر معظمها الولايات المتحدة، والتي تفشل غالباً في إدراك طبيعة الإرهاب الحقيقية. وكما في التعامل مع «القاعدة»، يجري التركيز على الطابع الحربي للصراع، وتأكيد لا عقلانية التنظيم وتطرفه وحقده، وتجاهل عشرات البيانات الصوتية والتلفزيونية التي أعلنها «بن لادن» و«الظواهري»، والتي تؤكد ثلاثة مطالب: «ينبغي على واشنطن إنهاء حضورها العسكري في منطقة الشرق الأوسط، وإيقاف الدعم المطلق لإسرائيل، والكف عن تأييد بعض الأنظمة في المنطقة». ويتابع «داعش» موقف «القاعدة» في تحميل الناس المسؤولية عن سياسات حكوماتهم التي انتخبوها. ويفسر الباحث كيف انبثق «داعش» بهذا الشكل، وبهذه السرعة، وإلى أين سيذهب، ويذكر أنه تجاوز مشروع «القاعدة» الأصلي، واستحال إلى نوع هجين لا مثيل له، استخلص العنف ما بعد الكولونيالي، المابعد حداثي، والنظام العالمي ما بعد العولمة، الذي ينبثق أمام أعيننا الآن. ويستخدم الباحث منهج العلوم الاجتماعية لتجاوز النظرة السطحية، التي تتوقف عند الطابع الإرهابي لـ«داعش» وخطابه الديني، ويستكشف تأثيره المقبل على طبيعة العنف السياسي المعاصر في العالم. ويوضح النزر القليل المعروف عن إدارة «داعش» شؤون الموصل خلال ثلاث سنوات، أنه استخدم تكتيك «القاعدة» التوفيقي في الحفاظ على سير الحياة، والدراسة في المدارس والجامعات، وعَقَد هدنات ومساومات مع مطالب السكان المحليين لإدامة عمل المؤسسات الحكومية، وحقق وضعاً أمنياً نسبياً في الموصل، وهي ثاني أكبر مدن العراق، وبقي سكانها يعانون منذ الغزو عام 2003 من تفجيرات واغتيالات ومفخخات وعمليات نهب وابتزاز. وإذا كان «داعش» قد خرج من رحم «القاعدة» فمن سيخلفه؟.. لا تساعدنا على إجابة ذلك السؤال شهادات خبراء الإرهاب، وهي حافلة بالتفسيرات، وأختار هنا ما يُفترض أن يكون علمياً، وهو تقرير «نيويوررك تايمز» المنشور بعنوان «لمكافحة الإرهاب بالرياضيات يحاول الفيزياويون التنبؤ بالهجمات». وفيه يركز العلماء على «الفهم السريع لمؤشرات تسبق أفعال الإرهاب»، ويستفيدون من كثرة استخدام «داعش» التواصل الاجتماعي للعثور على علامات في تغريدات تنشر نداءات للمتطرفين. وقاد «نيل جونسن»، أستاذ الفيزياء في جامعة ميامي، الفريق العلمي الذي طوَّرَ نموذجاً حسابياً لاستخراج قاعدة من فوضى عالم الإرهاب في الإنترنت، تستوحي الطبيعة في قراءة تراسل الإرهابيين، واستنتج أن «التراسل يتم كسرب طيور أو أسماك، وليس هناك سمكة واحدة تنادي سرب الأسماك إلى أن تكون كل سمكة على مسافة خمس بوصات عن الأخرى، وأن عليهم اتباع هذا الشكل». وتضع مخاطر شن الإرهابيين هجمات سبرنيتيكة واستخدام أسلحة الدمار الشامل، سكان الكرة الأرضية (شعوباً وحكومات) في عالم اليأس اللذيذ، الذي يقول عنه دوستوييفسكي: «في اليأس أقصى الّلذات، خصوصاً عندما يكون الشخص مدركاً جداً أن وضعه ميئوس منه». وهكذا، كما في أفلام «الموتى الأحياء»، يبدو الجميع مهتاجين ومبتهجين بأحداث مرعبة.