سارع تنظيم «داعش» إلى تبنّي مسؤولية المقتلة في لاس فيغاس، وكأن مجرماً مثل ستيفن بادوك كان يحلم هو الآخر بإقامة «دولة الخلافة»! أو كان مبايعاً من بعيد لأبي بكر البغدادي! أصبح التنظيم مستعدّاً لأي جريمة، خصوصاً إذا بلغ عدد ضحاياها العشرات، ليثبت أنه لا يزال ينتشر ويتمدّد على رغم أن مساحة سيطرته تتقلّص تدريجاً، والمتوقّع أنه بنهاية هذه السنة لن يعود ناشطاً في أي مساحة ولن يكون له عنوان، فمَن لم يُقتل من أتباعه أو يعتقل سينكفئ وقد يُعاد/ أو لا يُعاد تدويره في تنظيم آخر. لم يصدّق أحد إعلان «داعش» مسؤوليته، أو قوله إن «سفاح لاس فيغاس» اعتنق الإسلام، على رغم أن المحققين لم يغفلوا بادئ الأمر احتمال تأثره بهذا التنظيم. الأرجح أن بادوك من نوع المهووسين الذين يظهرون من وقت إلى آخر، تحديداً في أميركا، فهناك سبع عشرة عملية قتل جماعي خلال خمسة وثلاثين عاماً ولم يُربط سوى اثنتين منها بإيحاءات إرهابية «داعشية» في سان برناردينو/ كاليفورنيا (ديسمبر 2015) وفي ملهى ليلي في أورلاندو/ فلوريدا (يونيو 2016)، والأخير نفذّه الأميركي الأفغاني الأصل عمر متين الذي كان يطمح لأن يصبح شرطياً، حتى أنه اتصل بالشرطة ليبلغ أنه قد بايع البغدادي! والسائد بحسب زوجته السابقة أنه كان يعاني «اضطرابات عاطفية وعقلية حادة» قضى ضحيتها 49 شخصاً وأصيب خمسون. ومع أن الحادث صنّف إرهابياً، لم يُعلن بعد أن التحقيق استطاع لاحقاً تأكيد وجود علاقة تنظيمية مباشرة بين القاتل و«داعش»، على غرار الإرهابيين الذين ارتكبوا هجمات باريس وبروكسل، أو حتى القتلة الذين اتصلوا بالتنظيم ولم يتمكّنوا من السفر إلى سوريا أو العراق. لم يكن بادوك أحد «الذئاب المنفردة» أو عضواً في خلية نائمة، على رغم أن المحققين يعتقدون أن كمية السلاح التي اكتشفت في غرفته الفندقية وسيارته تفترض أنه قد تلقّى مساعدة. وبطبيعة الحال لا يزال السؤال «لماذا؟» مهيمناً في الولايات المتحدة. فالرئيس دونالد ترامب وصف الرجل بأنه «مريض» و«مختلّ»، والشرطة علمت بسرعة أن والده كان مصاباً بالذهان مع ميول انتحارية ووضعت في حسابها أن المرض قد يكون وراثياً ولم يظهر عند الابن إلا بعد تجاوزه الستّين، إذ كان يتناول أدوية مضادة للاكتئاب. وأما أخوه فأشار إلى احتمال إصابته بورم في الدماغ. ولكن التحقيق لا يزال إزاء شخص «لا سجل جنائياً ولا تاريخ معروفاً من الأمراض العقلية ولا علامات ظاهرة على سخط اجتماعي (كان بادوك مقامراً محترفاً وميسوراً) أو احتقان سياسي أو على أيديولوجية متطرفة»، وهي المعايير المعروفة لفهم الدوافع. فـ«لماذا» إذن هذه الجريمة (58 قتيلاً وأكثر من 500 جريح) التي كسرت الرقم القياسي لـ«مجزرة أورلاندو» في تاريخ جرائم القتل الجماعي في الولايات المتحدة؟ كان الجواب الجاهز: إنه السلاح المتوفّر بسهولة وبلا قيود. غير أن ترامب بدا كأنه لم يسمع، ثم أرجأ البحث في هذا الملف الشائك، فقد دافع خلال حملته الانتخابية عن الحق في حيازة الأسلحة لاستمالة لوبي الشركات المصنّعة و«الاتحاد القومي للبنادق» وجمهوره الواسع الذي ينتظر بعضه إتاحة شراء كواتم الصوت. ولكن ترامب الذي وصف اقتناء السلاح بأنه «من معالم الحياة الأميركية التي رسمها الآباء المؤسسون» يتعامل الآن وللمرة الأولى بصفته رئيساً مع تبعات قاسية ومأساوية لمجزرة مروّعة. ثم إن «الاتحاد القومي» نفسه يؤيّد الآن فرض قيود وضوابط. وفي إحصاء نُشرت أخيراً عن حيازة الأسلحة الفردية حلّت الولايات المتحدة الأولى (89 في المئة)، والأولى أيضاً بين الدول الغنية في نسبة الوفيات المرتبطة بالسلاح (66 شخصاً من كل مليون). وفي هذه الأرقام دلالة واضحة على فداحة المشكلة، غير أن حيازة السلاح تجاوزت كونها تقليداً متوارثاً وضرورة أمنية في بعض البيئات لتصبح هواية عرضة للنزوات الفردية. وقد كانت لدى بادوك ترسانة أسلحة ومتفجّرات. لكثرة ما اهتمّت هوليوود بجرائم القتل الجماعي وتفننت في إعادة بنائها على الشاشة، لم يعد واضحاً ما إذا كانت لإبرازها رسالة أخلاقية أم أنه افتتان بشحنة الإثارة التي تبثّها الجريمة. ولدى تخيّل مشهد الرجل الذي جهّز كل أدوات القتل وخطّط بصمت وتصميم لبشاعةٍ لم يسبقه إليها أحد: نافذة تطلّ على حشد شبابي في حفلة موسيقية. كان جرّب كل المتع التي توفّرها لاس فيغاس وبقيت «متعة» القتل. حين أطلّ على المشهد وشعر بطاقةٍ وسلطةٍ غير عاديّتين فرفع بندقيته وراح يقتل!