عادت السينما في الفترة الأخيرة إلى التذكير بدورها في المجال العام، على نحو ما كانت في فترة مثل عقد السبعينيات وقبله. وقد عرف العالم العربي مشكلة معقدة فيما سمي بـ«تأميم المجال السياسي» الذي ينعكس سريعاً ليشمل تأميم المجال العام ونقصد به هنا ليس فقط المجتمع المدني دائماً، وإنما الفنون الجماهيرية مثل السينما والمسرح، ولا نود أن نقول بتضمين ذلك للأدب، لأن التعبير الفردي فيه يمكن أن يفلت من حصار المجتمع والدولة. وتعتبر السينما الإفريقية، نافذة نموذجية أخرى للتعبير عن خروج هذا الفن من ذلك الحصار. إن قوة الرمزية، والإيحاء، ووصول التعبير لأوسع الجماهير، جعلت السينما لا تنكسر بشدة أمام ظاهرة كرة القدم مثلًا وخاصة في إفريقيا، ولا تنحسر تماماً أمام غياب الدولة الوطنية، وإن انحسرت بعض موضوعاتها، وذلك بسبب تنوع التعبير في السينما بمجالات نفاذها إلى النخب، والجمهور، ولو بآليات مختلفة. ومن يرى تأثير بعض الأفلام، أو شخصيات المخرجين، سيندهش لقوة حضورهم في المجال العام إقليمياً أو وطنياً، مثل يوسف شاهين أو خالد يوسف، أو مجدي محمد علي، أو عائلة العدل، مصرياً، والعقاد سورياً، وغير هؤلاء كثير. وبنفس القدر رأينا أيضاً في السينما الإفريقية أشخاصاً بالغي التأثير مثل عثمان سمبين (السنغال)، وهايلي جريما (إثيوبيا)، وعبد الرحمن سيساكو (موريتانيا)، وموسى توري (مالي) وغيرهم. وتقوم مهرجانات السينما الآن في الأقاليم المختلفة بدور بارز في تقديم هذه النماذج من عابري الحدود، الجغرافية- السياسية، أو الثقافية، يمثل بعضها جزءاً من حركة المجتمع المدني، وبعضها الآخر عرضاً للقوة الفنية أو الناعمة كما يسميها البعض لهذا البلد أو ذاك. ومن أهم المهرجانات ذات الدلالة هنا، مهرجان بوركينا فاسو، الذي أبرز، مبكراً، الطاقة الإيجابية لفن السينما ودورها الثقافي، وجعل مديريها أشهر من نجومها كجزء من حركة المجتمع المدني في ذلك البلد الصغير الفقير. أما مهرجان قرطاج في تونس، فهو قفزة أخرى في هذا الاتجاه، ولنسمع أخيراً بمهرجان في زنجبار، وجنوب إفريقيا بامكانيات مختلفة. وتبقى تنويعات السينما المصرية، بين القاهرة والإسكندرية، والإسماعيلية. ليأتي أخيراً مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية. وعلى رغم أن السينما المصرية، لم تعد هي أقوى التعبيرات الفنية العربية الإفريقية، إلا أن لها ضربات منافسة تحسد عليها بالتأكيد. وقد لا يتصور كثيرون -وأنا لست من نقاد هذا الفن، ولا أنوي إغضاب أهله بجهلي به! ولكنني تابعت مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية تحديداً لأربع دورات أخيرة بحكم تخصصي الإفريقي وليس الفني، وأشهد بنفسي المساهمات البارزة لمختلف البلدان الإفريقية، وكيف توضع إلى جانب الأعمال المصرية، التي هي أيضاً إفريقية بالضرورة. والمهم هنا هو أن القائمين على هذا العمل هم جزء من المجتمع المدني المصري الذي يحاول أن يستعيد عافيته في بعض المجالات مثل السينما، وليس في مختلف المجالات التي تلزم المثقفين والمهنيين بإحيائها. فنحن هنا أمام جهد جمعية الفنانين المستقلين، الذين دفعتهم تطلعات القوى الشابة في مصر وذكريات الدولة الوطنية إلى هذا الحضور على رغم الصعوبات التي يواجهونها، وإذا بنا في الأقصر أمام منافسات بين مئة وستين فيلماً، طويلًا وقصيراً من (34) دولة، وأكثر من مئة وجه فني، في مقدمتهم المخرج العتيد «هايلي جريما» (إثيوبيا)، و«عبد الرحمن سيساكو» (موريتانيا) وغيرهم من النجوم البارزين. وهذا هو معنى دور فن السينما في تنشيط دور المجتمع المدني المؤمم ليعود للحياة، لأن وراء ذلك المئات من شباب القاهرة والأقصر، والشباب الإفريقي من أنحاء القارة. وآمل أن يكون ذلك درساً لعناصر المجتمع المدني في مصر والعالم العربي والإفريقي، بل ومن أنحاء محافظات مصر نفسها ممن يأتون كمدعوين من قبل إدارة المهرجان النشطة. وهو دور مهم أيضاً في إحياء دور الفن في الأقاليم وليس فقط العواصم الكبرى، بل ودفع مجتمع السينما الى معالجة أصعب الهموم الجماهيرية. وقد رأينا دوراً مماثلًا، سبق أن كتبت عنه هنا لنقابة المهندسين في قضية مثل أزمة المياه... بل وبقينا لعدة سنوات نشهد دور مجموعة «الفن ميدان» التي دارت أنحاء الجمهورية لتقول فقط إن «الفن للحياة». وأنا واثق أن النقاد والصحفيين سيقومون بدورهم في التنبيه إلى هذه الأبعاد. وفي تقديري أن الاهتمام هنا لا يقتصر على أهمية تطوير دور الفنون في الإحساس بالجمال لدى الشعوب التي يقهرها ضغط الفقر، والتفتيت، والعنف، والسياسات الدولية! ولذا فإن فناً مثل السينما أصبح مهماً لإحياء أدوار حيوية في تفعيل المجتمع المدني، وخروج أوسع الجماهير من دائرة الإقصاء إلى دائرة الوعي بالتوحد مع روح الجمال القاهر للتشظي والإحباط.. بل إن حركة النقد السينمائي مثل الأدبي تقدم تدريباً حياً على انسجام روح النقد مع تطورات المجتمع وشؤونه المتنوعة.