لدى النظم الكبرى قدرة على «التفاوض الاجتماعي من أجل «استقرار القوى» أوالطبقة الحاكمة فيها. وقد أنجزت النظم الرأسمالية كثيراً في هذا الصدد، لأن التفاوض هناك قائم على العقلنة التي توفر آليات التحاور مع القوى المناهضة (نقابية وغيرها) من طلاب المشاركة السياسية وفرص التشغيل، وحقوق الحد الأدنى للأجور وحول البطالة والخدمات التعليمية والصحية..الخ- وحين يتعثر كل ذلك في الأزمات الكبرى تقوم حركات الاحتجاج التي نعرفها وأوصلها التدهور الرأسمالي نفسه للعنف الشديد. لكن الإقرار بالتفاوض أتاح للرأسمالية الحقيقية أن تنفرد بالسياسة وإدارة المجتمع معاً، ولصالح «القوى الحاكمة» أيضاً حتى من دون شراكة حقيقية حتى الآن، وإن كانت تسمى الشراكة الصورية موجات الديمقراطية / الليبرالية...الخ، وسنجد عكس كل ذلك في عدد من النماذج الأفريقية والعربية. الدول الفاشلة بقواها أو الهشة في بنيتها، عند أمثلة المجموعة الأخيرة، لا تستطيع إلا أن تعيش «وهم» التفاوض السياسي، لبعض الوقت، ما لم تقم على قوى انقلابية أصلاً، تمارس العنف وتضحى بـ«الاستقرار الاجتماعي»، وتضاعف من إنكاره، حتى تثير كل أنواع الاحتجاج ليس بمظاهرات سلمية، أو تنظيمات غاضبة فقط، بقدر ما تدفع نحو مظاهر العنف، وحتى الصدام المسلح في شكل تنظيمات كفاح مسلحة أو عصابات إرهابية، أو تدخلات خارجية مؤثرة. تكرر النظم الهشة هذه أمام عجزها مقولات: الحوار الوطني، أو النداء الوطني، أو طلب صبر الجماهير وتماسكها أو التحجج بأشكال العنف التي كانت هي سبب إثارته لزيادة الضغط وإرهاب جماهيرها، بل وقد تجد في المواجهة المسلحة بدورها أسلوباً لاستقرارها. ولأنها تقف عند حدود الرأسمالية والمؤسسات الهشة (إنْ جاز التعبير)، فإنها لا تستطيع أن تؤدي خدمات رأسمالية لها مصداقية إزاء مظاهر التفرد بالثروة الوطنية، فلا عملية إنتاجية منظمة للعمل، ولا جذب للاستثمار، ولا حقوق نقابية، ولا خدمات صحية وتعليمية كافية أو مرضية. وهنا تتقدم في مثل هذه النظم قوة المؤسسات الأمنية، أو الاقتصادية العسكرية أو الدينية، وثلاثتهم غير راغب في القيام بتفاوض حقيقي سياسي أو اجتماعي. نحن هنا لسنا أمام مجرد نظم ديكتاتورية، لأن ما يعرف بالكاريزمات الديكتاتورية الشمولية، قامت بالكثير من واجبات الدولة الوطنية التنموية، وإنْ من دون الديمقراطية المنشودة، ورغم ما تحققه من مصالح اجتماعية، فإنها لا تستطيع بسبب ديكتاتوريتها أن تحول ذلك إلى عملية تفاوض اجتماعي مع أصحاب المصالح الحقيقية، ومن ثم لا تفاوض سياسي، وهذا ما أدى إلى نفي التاريخ لوجودها المؤثر في حياتنا في شكل انتقائي أو مؤقت، ذلك أن التفاوض الاجتماعي كان يحتاج إلى مشاركة القوى الاجتماعية المتنوعة في صياغة مجتمعاتها وأنماط حكمها، وفي إطار من الاعتراف بالآخر. في أفريقيا، ثمة محاولات تفاوض كبيرة، نجحت نسبياً، وأخرى مترددة، تتعثر لكنها ما زالت تمضي، وثمة محاولات تعتمد على إثارة الغبار والضباب، وتقوم على ادعاءات، لا تحقق إنجازاً حتى الآن. حالة جنوب أفريقيا مثلاً، من حالات التفاوض الاجتماعي السياسي التي ينسب لها بعض النجاح في إطار تجارب العصر والعولمة الحامية للنظم الموالية، فقد تنازلت الطبقة الرأسمالية البيضاء خلال التفاوض للبرجوازية السوداء عن بعض أنواع «البزنسة»، بل والمجال السياسي، والمصالح والخدمات...الخ. فاستقرت البلاد على نحو ما خاصة في مجال الشراكة السياسية، مع حفظ القوة للرأسمالية (العقلانية ) أوروبية أو أفريقية. أما الحالة الأخرى، فهي في نيجيريا والسنغال مثلاً، ناهيك عن كينيا وتونس..الخ. في هذه الحالات يحدث التفاوض السياسي أساساً وينعكس بدرجة أو أخرى على التفاوض الاجتماعي ولو بالمعنى التشاوري بين العسكريين والرأسماليين في حالة نيجيريا، وبين السياسيين والدينيين في السنغال وتونس، وبين السياسيين والقبليين في كينيا، وهكذا.. ولذا يحقق معنى الدولة بعض الحضور الهادئ وتثبت الطبقة السياسية نجاحها النسبي في إدارة وفهم معنى التفاوض. في بلد مثل السودان ومصر – ويا للغرابة - يبدو الفشل واضحاً في تفهم معنى أو قيمة التفاوض إلا لتحقيق مصالح حاكمة، ففي السودان حيث توفرت لسنوات الثروة البترولية التي كان يمكن أن تستقر عليها مصالح الملايين، راحت الدولة تحارب حروباً في الجنوب ودارفور، وما زالت هنا وهنالك، ومن ثم فقدت القدرة على التفاوض السياسي أو الاجتماعي، حتى نفدت الثروة، وانقسم الدينيون، وأنهكت القوى السياسية، وضمرت الاجتماعية، فلم يبق إلا التمرد المسلح. وحين يصل الحال لذلك، لم يجد حتى الآن حواراً وطنياً ولا جبهات ديمقراطية، مما كان يفترض أنه يساند أو يحاور المتمردين في منهجهم، ومدى فاعليته، وإذ بالرؤى غائمة والشروط المتبادلة ليست سهلة. ومن ثم تضيع تدريجياً فرص نجاح الحوار، وقد يعاني المتمردون صعوبات الاستمرار، لأنه في مثل هذه الحالات تواصل القوى الحاكمة مناوراتها مع بعض قوى الداخل وكثير من قوى الخارج. أما حالة مصر فإن افتقاد الرؤية حول أي من أنماط الحوار، يفقدها فرص التصنيف. فالبرلمان غير معروف الهوية، والقوى السياسية تشعر بالشلل، والتنظيمات الاجتماعية وقواها لا تشعر بالشراكة في ظل مؤسسات حكم مغلقة على ذاتها ولا تتوفر قنوات للتفاوض الاجتماعي، في ظل قهر الظروف الاقتصادية على المواطنين، وتجاهل الرأسمالية «المحلية» للأزمة، ولا يعرف الكثيرون مصير ولا أبعاد المشروعات المخططة لصالحهم، في ظل سياسة البنك والصندوق سيئة السمعة في مصر وأنحاء العالم الثالث. تجاهل آليات التفاوض هو تجاهل للعقلنة، ولا يبقي بعدها إلا العنف المدمر بألوانه. ‏?