تحدثنا في عدد سابق عن أثر قرار الاتحاد الأفريقي في قمته الأخيرة بإرسال «قوات إقليمية» إلى جنوب السودان لتصبح «تدخلية» بالضرورة، وليست مجرد «حفظ السلام» وما يعنيه ذلك من تشكيل خريطة المنطقة لمصلحة عدد من دولها بالإضافة للخطه الدولية لاستقرار عناصر هذه المنطقة لصالحها. وأشعر الآن أن هذه الموجه جديرة بالمتابعة سواء في الشمال الأفريقي أو المشرق العربي، حيث تريد الدول الكبرى العالمية أن تستقر على «إدارة التوافق» لفترة إلى أن يتم إعادة توزيع – أو رسم- الخريطة... أو لنقل رسم «التحالفات الإقليمية»، في إطار الخريطة المتفق عليها دولياً..! وكان مثال جنوب السودان ومحيطه مجرد واحدة منها. وقد فوجئت يوم 12/8/2016 بقرار مشابه – قد يكون أقوى- بمطالبة مجلس الأمن للأطراف الموقعة على «خريطة الطريق» في السودان الشمالي والمجتمعة في أديس أبابا، بسرعة الاتفاق على وقف «الأعمال العدائية»، والتوصل لتسوية نهائية للنزاع، خلال اجتماعهم – بتوسط ثابو أمبيكي» مندوباً للاتحاد الأفريقي بين وفود الحكومة من جهة، ووفود مجموعة «نداء السودان» التي تضم «أطرافاً ثلاثة» من الجبهة الثورية المقاتلة في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور. حتى ممثلي الصادق المهدي المتحرك يمنة ويسرة طول الوقت بين الحكم والمعارضة، والثوار.. ومن ثم فنحن في الواقع أمام «ثلاثية» دائمة تتحرك ثنائية مرة وثلاثية أخرى حسب اتجاه رياح القوة. ومن اللحظات الأولى يبدو الحديث نحو «التوافق»- رغم توترات رئيسية لا توحي بهذا التوافق- ممكناً في حالة ما إذا كان الوسطاء وأصحاب المصالح متشددين لتنفيذ خطتهم، مثل «رغبة ثابو أمبيكي» لتحقيق بعض النجاح في مهمته التي وصلت إلى حد التشكيك في بعض نواياه المصلحية في الشمال والجنوب على السواء. أما جوانب التوافق الظاهرية الأخرى فهي في تسليم مختلف الأطراف بخريطة الطريق التي وقعتها الحكومة في مارس الماضي بينما لم يوقعها الثائرون والمعارضة (نداء السودان) إلا الأسبوع الماضي في إشارة لتحسن المواقف.. رغم تحذيرات الخبير بالحكم في السودان (فاروق أبو عيسى) من الثقة والرضوخ للمجتمع الدولي. هنا سرَّب البعض أخباراً عن أنها ليست فقط مساعي ثابو أمبيكي وأديس أبابا الإقليمية، وإنما كان هناك عنصر خفي هو المبعوث الأميركي الذي قام برحلات مكوكية بين مختلف الأطراف لإنجاح «الحوار الوطني».. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الرئيس البشير يستمتع الآن بتفاهمات مع أمبيكي، ومكوكيات أميركية، ورغبات إثيوبية، واضطرابات جنوبية يبدو أمامها هو الأقوى، كما أن هناك غياباً مصر الذي طال، وهي التي كان لديها قوة «الإجماع الوطني» بقيادات تقليدية من قوى اليسار واليمين وإن كان بعضها هاجم «الإطار» صراحة ما لم يؤدِّ إلى إصلاح دستوري حقيقي (الحزب الشيوعي). في هذه الأجواء نتصور أن المطرقة تدق على الجسد السوداني، لتوحيد جبهة حوض النيل في اتجاه معين، يعيد الحياة لنظام الرئيس البشير الذي أصبح يبدو ضاغطاً على قوى ثورية مقاتلة وشديدة البأس في النيل الأزرق وجنوب كردفان للدخول في «الاتفاق الإطاري» الذي يصفه هو، مع فصل موضوع دارفور عن نقاش المنطقتين الأخريين، وقصر المباحثات على الاحتواء العملياتي فقط (وقف العدائيات) دون الاستجابة «لنداء السودان» في مطلب وقف إطلاق النار (لتمرير المساعدات وحل المليشيات... الخ)، والذي يناقش وحده في إطار سياسي آخر. إذن فالقوى الثورية التي باتت تنشد على ما يبدو التوافق، لكن على أساس «الشراكة السياسية» تواجه اشتداد عضد الحكم الذي يتوقف عند مسألة «إلحاق المعارضة» بـ«خطة الوثبة الثانية» بعد فشل الوثبة الأولى وإطارها الحواري... لكن ها هي الحكومة بدورها تسلم بإمكانية الحوار الوطني وضرورته مع القوى الرافضة، وفي أديس أبابا وليس التصميم السابق على عقده بالخرطوم، وفي استجابة لنداءات الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن، وليس مجرد الوساطة الهزيلة لثابو أمبيكي، وكل ذلك يعطي نظام الرئيس البشير استراحة، وعينه دائماً على حكم المحكمة الدولية، ومعالجة مشاكل الفيضان والأوضاع الاقتصادية المتردية، ولكن الأزمة في دارفور لا يبدو أنها تخضع لهذه الاستراحة، فستنضم آجلاً أو عاجلاً إلى مشاكل الصحراء الكبرى الإرهابية، وليس إلى خطط حوض النيل التوافقية. (يذكر هنا أخبار داعش في السودان من ناحية وضربات الطيران السوداني في جبال النوبة من ناحية أخرى). وفي هذا البعد التشاؤمي يذكر تدخل مجلس الأمن المشار إليه، كرسالة تذكير عن استعادة القرار 687 بشأن العراق الذي تطور إلى احتلاله لصلته بالبند السابع، إذا استمرت الأعمال العدوانية)! فهل يا ترى تشتعل المنطقة بالقتال على أرض السودان، أم ينجح أصحاب المصالح المحلية في تكوين كتلة حوض النيل من منظور آخر؟ كنا في مصر والمنطقة العربية نتوقع قيام حوض النيل كمنطقة مصالح لمصر والخليج مثلاً، وليجري وراءها من يريد المصلحة على أساس احترام الاستقلالية، والتنمية المشتركة ومعالجة الأزمات التي تمطر اليوم سيولاً، واتفاقات محبطة‏? ?على? ?طول? ?وادي? ?النيل?!