ألفنا في الفترة الأخيرة القول بأن الإرهاب أصبح ظاهرة عالمية، ليس بسبب مجرد الانتشار في أنحاء مختلفة من العالم، بل لأن أدواته أصبحت أكثر تقدماً في غالب الأحيان من آليات السلطات السياسية التي تواجهه، وأن ذلك أيضاً بسبب تقدم آليات صناعة العنف، والشركات متعددة الجنسية التي باتت تعمل خارج أطر الحكومات، فيما بات يعرف بالحكومات النوعية أو المستقلة في كفاءاتها، كل ذلك أصبح مكرراً بين الكُتاب وحتى المتخصصين، بسبب تمدد الظاهرة الإرهابية خارج حدودها المعقولة. لكن ثمة ظواهر أخرى باتت ترتبط بالعملية الإرهابية، ولم يكن تفسيرها سائداً من قبل تنبه بعض المثقفين القوميين - لها مؤخراً - وهي أن بعض المواقع التي تتمترس فيها قوى إرهابية معروفة بشدة مراسها ليست كذلك بسبب المجندين أو نوع السلاح، بقدر قوة مواقعهم الشعبية والعسكرية الوطنية السابقة أو التاريخ المعروف للموقع، كرمز للصلابة الوطنية أو الدينية، أو مكون الحداثة لبعض العناصر فيها، حتى سمعت ذلك نفسه بشأن الموصل والفلوجة وحتى حلب، وهذا ما يوفر قدراً من الصلابة «المحلية» والشعبية ليست خارجية المصدر. كان كل ذلك يبعدنا بقدر من الاطمئنان عن العامل الديني نفسه الذي نربط به حركة الإرهاب بمستوى التطرف الديني أو الإغراق في السلفية أو الإغراء ببعض مكاسب الإسلام السياسي، وإنْ كان أحد لا يستطيع تجاهل العامل الديني. ولكن هذا التبسيط جعلنا نمضي في تفسيرات لم تؤد إلى كثير من عبور مأزق الفكر السياسي مع حقائق التنظيمات الإرهابية عالمياً أو قومياً، بقدر ما حاصرتنا في مقولات شغلت المثقفين والفلاسفة وبعض الرموز الدينية، أكثر مما وصلت لجماهير الشعب في حياتهم اليومية. ومن ذلك قضايا التجديد في الخطاب الديني، ناهيك عن الوصول لمقولات المراجعة والتحرير أو المناهج التربوية الجديدة وروح التسامح، إلخ، وبات ذلك أكثر المواد وروداً فيما يكتب. ولقد دفع ببعض هذه التساؤلات إلى نفسي، ليس الطريقة الساذجة دينياً التي يعيش بها المسلمون شهر رمضان مثلاً، ولكني ذهبت بعيداً إلى أوراق أعيد قراءتها بعد كتابتها منذ مدة عن ثقافة «الكانوري» (شمال شرق نيجيريا)، وعلى أرض «مايدوجري» في نيجيريا، حيث ترتع «بوكو حرام»، وإذ بها تمتد بالعنف نفسه إلى أقصى جنوب غرب في «إيلورين» حيث بلاد «اليوروبا» المعروفين بسلامهم في استقبال الإسلام وتأسيس امبراطورية «إيلورين» منذ حوالى ستة قرون مقابل ألف عام وأكثر في تأسيس «الكانوري» وفي ثقافة الإمبراطوريتين – تأسيس الجامعات الإسلامية، وتتابع الأئمة والشيوخ، واختلاف مدارس الفتوى، ورفض الاقتتال بين أطراف قريبة أو بعيدة، كما قرأنا كثيراً عن «الشيخ الأمين الكانمي» في «كانم – بورنو»، أو عن «مالام أليمي»، أو «المعلم عليمي»، إنْ شئنا التبسيط. هذه الشخصيات كانت مثل أئمة الإسلام التي يعدهم الأزهر أو يشتهرون في «الزيتونة» و«فاس». وقد رصد أستاذ نيجيري مؤخراً من جامعة «إيلورين» ما يقرب من مائة عالم شهير باجتهاداته في كتاب توثيقي- هو «علماء الإمارة»- إشارة إلى ثروة «إيلورين» وجوارها العلمي، ولذا عرفت «إيلورين» في قلب الغرب الأفريقي بأنها أرض السلام، كما عرفت «مايدوجري» كذلك لقرون إزاء ميل «الفولانيين» غربها بالقدرة على القتال حتى استقروا دينياً في «سوكوتو»...كيف إذن يخرج هؤلاء الإرهابيون، وقتلة أطفال ونساء إلى العالم من قلب هذه البؤر الدينية للصالحين والمصلحين؟ وكيف حدثت القطيعة مع عالم الصلاح نفسه، رغم استمرار الحركات الدينية ومدارس التدين الكبيرة شرقاً وغرباً وشمالاً؟ أتصور أن حركة ما يسمى الإصلاح أو التجديد الديني لم تكتمل يوماً، وأن المؤسسة الدينية التي أقامت إمبراطوريات في «مايدوجري» «وإيلورين» و«سوكوتو» لم تتصور يوماً أنها تجدد في الميراث الديني أو تحرره من اللاعقلي أو اللا تحديثي مثل بلاد الله التي فعلت ذلك هنا وهنالك. لا بد أن الأمر يتعلق بمدى الاستجابة لعملية التغيير والتطوير الاجتماعي والسياسي الذي نال بلاداً أخرى، ما دفعها إلى تطوير مؤسسة التعليم والثقافة ومناهج التفكير. المسألة تتعلق بموروث معظم المناطق الإسلامية في تسليم القيادة الفكرية والمذهبية لمجموعات من «مشايخ» يرتبطون أساساً بالقديم، وليس الرغبة في التجديد، وهذا ثابت في تاريخ ما ذكرناه من البلاد هنا كأمثلة لدراسة الباحثين مثل «الكانوري» في «مايدوجوري» أو شيوخ «إيلورين»، حيث تكونت من هؤلاء الشيوخ قوات شبه «ميليشياوية» تساند هذا الأمير أو ذاك أثناء قيام الإمبراطوريات التوسعية. هل ثمة مكان للدهشة الآن من وفرة المفتين في بلادنا بادعاء قيادة الفكر الديني أو وفرة كوادر الجماعات الإرهابية، وهي تنطلق كالصواريخ بفتاوى دينية يرددونها عن ظهر قلب، وكأنهم أئمة، لا مؤمنين مسالمين على نحو ما ورثوه؟ يمكن أن أستبعد الدهشة ما دمنا لم نشهد يوماً على الساحة الأفريقية أو العربية عملية تجديد جذرية أو عملية تغيير اجتماعي حقيقية، بل تفتت وطني وقومي لا يتيح لوطن الحداثة فرصة تذكر.