شغلت المباحث القرآنية في السنوات الأخيرة جل المفكرين العرب التحديثيين، الذين اهتموا بالمسألة التراثية، بعد فترة تَهيُبٍ من التعرض للنص المقدس المؤسس والاكتفاء بالنصوص الثانوية الشارحة التي ليست لها قدسية المصدر والمنبع. وكان «محمد أركون» الاستثناء الأوحد في هذه القائمة باعتباره اقترح مبكراً مقاربته المنهجية للتعامل مع القرآن في نص منشور بالفرنسية في سبعينيات القرن الماضي. من هذه القائمة نذكر «نصر حامد أبوزيد»، الذي بدأ دراساته القرآنية بالمقاربات التفسيرية لدى المعتزلة والصوفية (ابن عربي) قبل أن يقدم أطروحته التأويلية المكتملة في كتابه «مفهوم النص» (1990)، في الوقت الذي نشر «عبدالمجيد الشرفي» رؤيته في المسألة القرآنية في كتابه «الإسلام بين الرسالة والتاريخ» (2001)، وقدم «هشام جعيط» تفسيره للظاهرة القرآنية في كتابه «في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوة» (1999)، وبدأ «محمد عابد الجابري» مشروعه في «التفسير الواضح للقرآن حسب ترتيب النزول» من خلال كتابه التمهيدي «مدخل إلى القرآن الكريم» (2006). يتعلق الأمر بمقاربات متمايزة في التوجه والمنهج: أنثربولوجيا نقدية مطبقة حسب توجه "أركون"، وهرمنوطيقا تحليلية لغوية حسب «أبي زيد»، وتاريخ أفكار حسب الشرفي، ومقاربة ظواهرية «فينمونولوجية» حسب جعيط، و«أبستمولوجية» نقدية ملتزمة حسب الجابري. ومع ذلك يمكن القول إن هذه الأطروحات تلتقي في خطوطها العامة بخصوص الموضوعين المحوريين، اللذين شغلا الباحثين التحديثيين في المسألة القرآنية وهما: الظاهرة الوحيائية (أي تفسير ظاهرة الوحي) والظاهرة القرآنية (أي اعتبارات جمع وتدوين وتقنين النص المقروء)، مع اختلاف لا ينكر في الاستنتاجات القيمية من هذه المواقف النظرية. بخصوص الظاهرة «الوحيائية»، تنزع مختلف هذه المقاربات إلى التفسير النفسي- الإجتماعي لعملية الوحي باعتبارها من جهة تعبيراً عن حالة نفسية قصوى يمر بها النبي، ومن جهة أخرى محطة من محطات التقليد الميثي (من ميث التي تترجم عادة بالأسطورة) لديانات الكتاب، تعكس معطيات الوضع التاريخي القائم في الوسط الذي ظهرت فيه الرسالة. يختلف الباحثون المذكورون في تعبيراتهم، لكنهم يتفقون في المضمون: الوظيفة النبوية في التقليد الشرقي الأدنى القائمة على الرؤية «الميثية» الخلاصية والسلطة المؤسسية للكتاب المقدس (أركون) النص منتج ثقافي تاريخي يعكس الواقع المجتمعي (أبوزيد)، الوحي كحالة استلابية رؤيوية يقتضيها تأسيس الديانات الكونية الكبرى التي تتطور وفق نسق غائي لا واع (جعيط)، الوحي كحالة تخمر ذاتي في شخصية النبي يتناسب مع الأفق الميثي القداسي لمجتمع التلقي وتعكس مناخه الاجتماعي والقيمي (الشرفي)، الوحي كتعبير مكتمل عن تحولات عقدية وفكرية من عناصرها الأساسية التيار التوحيدي الرافض لعقيدة التثليث والطائفة "الأبيونية" اليهودية والدعوة الأريوسية التوحيدية والحركة الحنفية دون التعرض لمصدر الوحي ذاته(الجابري). الملاحظ هنا أن هذا التفسير الاجتماعي التاريخي يبحث له دوماً (لأسباب دفاعية وسجالية بديهية) عن تأصيل في عقيدة خلق القرآن الاعتزالية والتمييز الأشعري بين الكلام النفسي والكلام اللفظي للتدليل على إمكانية القول ببشرية وتاريخية النص في عباراته وبناءاته الدلالية (مما يقترب من أطروحة القبض والبسط في شخصية النبي لدى عبد الكريم سروش)، دون الانتباه إلى أن الموقف الكلامي ينطلق من مسلمة المصدر الإلهي للوحي، ولا يتجاوز الاختلاف القائم بين المتكلمين مسألة الخلق، في الوقت الذي لا نجد حتى عند القائلين بأن القرآن كلام الله الذاتي فكرة التماهي بين الله وكلامه، أو فكرة تجسد الله في الكلمة الذي هو تصور مسيحي معروف. ما نود التنبيه اليه هنا هو أن التأويليات النقدية التي توقفنا عندها تصدر عن موقف منهجي ملتبس وإشكالي: ينطلق من المقاربة الانثربولوجية الوصفية في رصد الظواهر القداسية الخارقة التي يطلق عليها التعبير «الميثي» الأسطوري، وهي تسمية ظهرت أساساً في تحليلية القصص الشعبي المعبر عن المخيال الجماعي في حين أن المصطلح الأكثر حيادية وموضوعية هو مقولة الرمز التي لا تتعرض بالتقويم للاعتقاد الإيماني كما أنها تحيل إلى ثوابت مجتمعية كبرى لا تنحصر في عصر بعينه، ولا يقوم انتظام بشري بدونها، (نحيل هنا إلى أعمال رجيس دوبريه الرائدة)، في الوقت الذي تضاعف هذه المقاربة الوصفية بتحليلية إبستمولوجية وضعية قصوى تقصي من دائرة المعقولية والبرهان المعطى الديني الصادر عن الوحي والتنزيل، بحيث يتم النظر اليه أما كحالة نفسية باثولوجية (أطروحة ماكسيم رودنسون التي تتكرر لدى جل الباحثين المذكورين) أو حالة تاريخية اجتماعية ظرفية يقتضيها التاريخ الديني والمجتمعي. هذه الحيلة المنهجية تبدو هشة عندما ندرك أنها تصدر عن تصورات وضعية وتاريخانية تجاوزها حقل الدراسات الدينية في الغرب على الرغم من التنويه الدائم بالرجوع لمستجداته لتحرير العقل الإسلامي من دوغمائيته المعيقة. فالعالم الرمزي لا يمكن فهمه من منظور الخيال الزائف أو الأسطورة، بل هو «الأفق المنبع» للتقاليد الثقافية بكاملها، وهو ما يسمح بالتفكير حسب عبارة شيخ التأويليين المعاصرين «بول ريكور»، بمعنى أنه هو لحظة الانبثاق الأصلي للمعنى والتعبير عن الخلفية المفارقة والغيبية للنظر بما فيه القول الفلسفي البرهاني، وذلك هو أحد مدلولات الإيحاء والوحي حتى بالمفهوم البشري، أي الثقة في المعنى وأهلية اللغة على الكشف عن حقائق الوجود والتواصل بين الناس التي عدها «دريدا» خلفية دينية لا محيد عنها. كما أن التصورات البداهية والجذرية للحقيقة من حيث هي تحقق تجريبي واستدلال برهاني إطلاقي لم تعد تنسجم مع مستجدات الفكر الأبستمولوجي، التي أعادت الاعتبار للحقائق الدينية في منطوقها العقدي والخطابي، في سياق ما أصبح يُعرف بأبستمولوجيات الاعتقاد والشهادة، التي أثبتت أن المعتقدات الدينية في جوانبها اللاهوتية والعقدية قابلة للصياغة البرهانية وفق الطرق التحليلية المنطقية، كما أنها تنتمي للحقائق الشهادية، التي هي أساس المعارف الإنسانية المشتركة، التي تنتقل في مجملها وفق «مبدأ القبول» (تيلور بورج) أو «مبدأ التضامن التأويلي» (دونالد دفيدسن)، أي أسبقية صدقية الشاهد على المضمون البرهاني للشهادة تجسيداً للطابع الجماعي لعملية التعقل، مما يطول شرحه ولا يتسع المقام لتفصيله. (للحديث بقية)