يخضع الفكر السياسي، في التغيرات والتحولات التي تطرأ عليه، لِما يوازي ذلك ويخترقه من تغيرات وتحولات على صعيد الواقع المجتمعي المشخَّص. وفي حالة أخرى، يظهر ذلك الفكر السياسي متبلِّداً جامداً، أو مراوغاً مُنتجاً للأوهام من نمط أيديولوجيات كلّية وشمولية وصالحة لكل زمان ومكان ومن ثم للأبد، أو جاهلاً قاصراً ساذجاً، أو استعلائياً عنصرياً أو نخبوياً، وغيره. ولكن ضمن ظروف متّسمة بالتقدم الفكري والثقافي العام، يمارس الفكر السياسي، خصوصاً، دوراً مؤثراً في تلك الظروف، وفاعلاً فيها على نحو أو آخر. والملاحظ أن تلك الاحتمالات تتغير وظائفها وتتبدل بحسب خصائص المجتمعات المختلفة (القديمة والوسيطة والحديثة والمعاصرة واللاحقة). وضمن هذه الرؤية، نلاحظ أن وظائف الفكر السياسي راحت تعيش انتعاشاً وتعاظماً مع ظهور المجتمعات الغربية الحديثة (الرأسمالية)، خصوصاً يداً بيد مع تبلور الاتجاهات الاستعمارية والخلفية أو الخلفيات الفكرية، التي ارتكزت إليها وانطلقت منها تحفيزاً أو تسويفاً أو تنظيراً. لكن ذلك وإنْ ظهر بقوة في الغرب المعْنِي، إلا أنه أفصح عن نفسه، كذلك، في بلدان العالم الثالث، وتخصيصاً في تلك التي احتضنت مشاريع وتطلعات إمبراطورية توسعية باسم حق تاريخي، أو بذريعة ضيق المجال الحيوي الاقتصادي والاستراتيجي، الذي تتحرك فيه. هاهنا يبرز مثالان نموذجيان على ما نحن بصدده، الأول منهما ظهر في ألمانيا الحديثة وفي المرحلة التي كانت بمثابة التهيئة للحرب العالمية الثانية على الصعيد الأيديولوجي. فقد ظهر في الأوساط الألمانية الاقتصادية والسياسية تأكيد مجدَّدٌ بقوة على مصطلح ذي حضور سابق، هو: "المجال الحيوي". وراح يعيش حالة متسعة من التسويق على صعيد العالم: إن تعاظم وتائر التطور الصناعي والاقتصادي في ألمانيا لم تعد أسواقها قادرة على استيعابه، ومن ثم، لابد من البحث عن أسواق أخرى تقوم بهذا الدور، وتوقف الأزمات الاقتصادية وغيرها المحتملة، أما هذه الأسواق فهي موجودة في البلدان الأوروبية والشرقية ضعيفة التطور. ولما كان تحقيق هذه الاستراتيجية أمراً يمكن أن يستثير مقاومة وممانعة من قِبل البلدان المُتجه إليها، فقد دخلت الحرب المسلحة بوصفها سبيلاً إلى تحقيق ذلك، ومعروف أن هذه الاستراتيجية الحربية كلفت العالم الغربي خصوصاً ملايين الضحايا البشرية. في هذا السياق، يظهر "المنطلق" ماثلاً في تضخم التطور الاقتصادي في بلد معيّن، يسعى إلى حل مشكلاته بطريق الغزو الاقتصادي والعسكري أو كليهما. لكن نمطاً آخر لاستراتيجية الغزو الاستعماري يبرز بصيغة نموذج آخر دخل الفكر السياسي تحت مصطلح "نظرية ملء الفراغ". أما هذه الأخيرة فتُفصح عن نفسها بالأطروحة التالية: إذا كان هذا البلد أو ذاك من البلدان المُستعمَرة قد تخلص من مُستعْمريه وغدا مستقلاً متحرراً، فإن شعبه، الذي يدخل في خانة "التخلّف"، سيكون قاصراً عن تحقيق شروط "التقدم"، بسبب أن التخلف مزروع في "جِبِلّته" وفي "تاريخه". ومن أجل تحقيق هذا "التقدم" يصبح أمراً مهماً أن يُسْلم الشعب المذكور قياده لدولة عظمى تقوده إلى شاطئ الأمان، وتجد لنفسها -كذلك- حلولاً لبعض أزماتها الداخلية المستعصية. ويُضاف مسوِّغ آخر لتسليم ذلك الشعب زمام أمره لدولة عظمى متقدمة، هو أن هذه الأخيرة تضمن السلام الداخلي بين الشعب المذكور والشعوب الأخرى التي من شاكلته "المتخلفة"، (لننظر فيما يحدث من صراعات بين شعوب عربية وأخرى أفريقية). هكذا تبرز النظرية الأيديولوجية الزائفة القائمة على "ملء الفراغ" وقد تحدث عنها وباسمها الرئيس الأميركي الأسبق آيزنهاور في الستينات من القرن المنصرم، عانِياً بذلك أن الاستعمار الإنجليزي الذي أُرغم على الانسحاب من مصر عبدالناصر، لابد أن تملأ مكانه في أرض الكنانة قوة أخرى جديدة "أكثر حكمة وعدلاً وتقدماً". وإذا كان ذلك قد ظهر في الساحة النظرية السياسية إبّان ظهور الاستعمار البريطاني لصالح الاستعمار الأميركي، فإن سؤالاً فاقعاً يفرض نفسه في مرحلتنا الراهنة المعيشة، وذلك تعليقاً على قولٍ صرح به الرئيس الإيراني قبل أسبوع ونيّف أكد فيه أن إيران مستعدة لملء الفراغ في العراق، بعد خروج الجيوش الأميركية والحليفة فيه. أما السؤال فهو التالي: كيف نظر الرئيس الإيراني إلى المسألة، ألم يعتبر الشعب العراقي جديراً بأن "يملأ" بلده؟ ثم، هل هذا الشعب عاجز وقاصر عن استلام مقدراته ببلده، بحيث يحتاج إلى مَن يقوم بهذه المهمة من الجوار القريب؟ إن تلك أفكار أولية بسيطة يمكن أن تُحيل شعوب العالم المستضعفة مجدداً إلى المبدأ السياسي الأعظم، مبدأ الاستقلال والسيادة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.