الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

دمشق.. أبجديّة الياسمين

من شوارع دمشق القديمة (أرشيفية)
28 يوليو 2022 00:31

فاطمة عطفة (أبوظبي)

دمشق أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، كانت عاصمة الغساسنة قبل الإسلام، وفيها يقول حسان بن ثابت: «يسقون من ورد البريص عليهم .. بردى يصفَّق بالرحيق السلسل»، وهي عاصمة الخلافة الأموية من عهد معاوية، وحافظت على مكانتها في العصر العباسي. ويعد نور الدين الزنكي والظاهر بيبرس وصلاح الدين الأيوبي من أهم من حكموها بعد العصر الأموي. وأما الجامع الأموي فمن أشهر المساجد في العالم الإسلامي، ومازال سورها الشرقي قائماً والمدينة القديمة تحتفظ بعدد من أبوابها السبعة، ومنها باب شرقي وباب توما وباب كيسان وباب السلام. ومن أهم الشخصيات الفكرية التي مرت بدمشق ابن بطوطة شيخ الرحالة العرب، والعلامة ابن خلدون الذي قابل تيمورلنك خلال الحصار المغولي للمدينة. وقد أشاد الشاعر أحمد شوقي بأهميتها الحضارية في قوله: «لولا دمشقُ لما كانت طُليطلةٌ .. ولا زهت ببني العبّاس بغدانُ». ومازال فيها كثير من الأبنية الأثرية القديمة، ومنها: قصر العظم، خان أسعد باشا، قوس النصر، المكتبة الظاهرية، إلى جانب قلعة دمشق، والأسواق المسقوفة بالتوتياء، ومنها الحميدية والبزورية والقيمرية، ومحطة الحجاز للقطار.
ومن المعالم التي تحتضنها دمشق، ضريح بلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلاح الدين، ومقام الشيخ محيي الدين بن عربي، وابن عساكر- مؤلف موسوعة «تاريخ دمشق». وأجمل ما في البيوت الشامية القديمة باحة الدار المفتوحة على السماء وحولها الغرف وفي وسطها بئر الماء والبركة التي تسمى البحرة. ولعل دمار حي اليرموك أكبر ما أصابها من ضرر، إلى جانب الغوطة التي زحف البناء العشوائي والتهم ملايين الأشجار من بساتينها. وبردى بفروعه السبعة (ولم يبق منها إلا أربعة) هو الذي يرويها وينتهي في أطراف البادية، على عكس الأنهار كلها.

منارة للثقافة
يقول د. عماد فوزي الشعيبي، أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق: نستطيع أن نتكلم عن دمشق باعتبارها حاضرة، ‏نقطة تقاطع بين قارات ثلاث. ‏والحاضرة تعني الثقافة ‏بمعنى المعرفة وكل ما يتصل بها. ولهذا فإن من أقدم المكتبات تاريخياً المكتبة الظاهرية التي ضمت الكثير من المخطوطات النادرة والتي كانت مصدراً ‏للمعرفة الفردية والجماعية. والمكتبة الظاهرية من أقدم المكتبات في مدينة دمشق ومن أهم المكتبات العربية. أسسها الظاهر بيبرس عام 676 هجرية. وتقع ضمن المدرسة الظاهرية الكائنة في باب البريد بجانب المسجد الأموي في دمشق القديمة. والمكتبة العادلية أيضاً إحدى أقدم مكتبات مدينة دمشق القديمة. وتقع في منطقة باب البريد قرب المسجد الأموي في دمشق القديمة، في مقابل المكتبة الظاهرية، وقد ظلت مدرسة ومكتبة وقفية لمئات السنين حتى عام 1420 ونيّف من الهجرة. وعرفت دمشق القديمة مكتبات شهيرة في منطقة المسكية، جانب الجامع الأموي، ‏لبيع الكتب الأسرية أو المطبوعة عنها أو بيع الكتب المستعملة أيضاً لمن لا يود الاحتفاظ بها، ولتسهيل التداول بأرخص الأسعار.
و‏نستطيع أن نقول دون تردد إنه ‏لا مشروع ثقافياً يمكن أن يتقدم من دون دمشق. ‏فإذا اعتبرنا جزءاً من الثقافة المسيحية -كما الثقافة الإسلامية- مشاريعَ ثقافية -بمجاز المعنى- فإن لنا أن نرى دمشق منطلقاً لكل من المشروعين في جوانب عديدة. ‏وعندما أرادت الصوفية أن تأخذ مداها أتى محيي الدين بن عربي إلى دمشق. وقد شهدت دمشق حراكاً ‏ثقافياً بارزاً حتى إننا نستطيع القول إن معظم التيارات الفكرية والأيديولوجية في القرن العشرين قد بزغت أو تبلورت في دمشق، وكانت مكتباتها موئلاً ومرجعاً. و‏عرفت دمشق/ الشام التي كانت مُتجهاً لكل من أراد الظهور ‏‏(حتى يمكن القول إن دمشق تُدمشِق من يأتي إليها ‏ولا نستطيع أن نميز بين دمشق وبين من يأتي إليها من كل بقاع سوريا)، ويظهر فيها عدد كبير ‏من الأدباء والمفكرين اللامعين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، من الماضي إلى الحاضر الحديث والمعاصر، ‏محمد كرد علي؛ أدونيس، حنا مينة، زكريا تامر، حيدر حيدر، ‏محمد الماغوط، سعد الله ونوس، علي كنعان، ‏هاني الراهب، عبدالسلام العجيلي، سامي الدروبي… والقائمة تطول. ‏بكلمة أخيرة دمشق التي (تدمشق) من يأتي إليها تبقى منارة للثقافة على رغم كل ما مرّ عليها، ‏فهي منتج كبير للثقافة بأشكالها المختلفة، وهي قادرة على أن تكون كطائر الفينيق!

ملهمة للشعراء والأدباء
وتقول د. مانيا سويد، أستاذ محاضر تعمل في الإمارات: دمشق «عشقي الأبدي» لها مني الوفاء كما يليق بها وبتاريخها المعشَّق بالخصب، فناهيك عن صيتها الذائع كإحدى أقدم مدن العالم على ما يزيد العشرة آلاف عام تقريباً، فإن اسمها البهي ملهم للشعراء والأدباء على مر الأيام وعبر حقب متفاوته ومتباينة.
ولدمشق دور نافذ لعقولنا وقلوبنا من خلال رسالتها الرفيعة في إثراء الحراك الثقافي والفكري وقد ألهمت الشعراء والأدباء، مثل المؤلف الرحالة لامارتين، كما امتدح دمشق البحتري وابن جبير، وفي الأدب المعاصر عمر أبو ريشة وسعيد عقل وشوقي بغدادي. ولم يوفر الشاعر نزار قباني تباهيه بنسبه الدمشقي قائلاً:
«هذي دمشق وهذي الكأس والراحُ... إني أحب، وبعـض الحـب ذبّاحُ/ أنا الدمشقيُّ، لو شرّحتم جسدي... لسـال منه عناقيـدٌ وتفـاحُ»
وكم آلم الروائية السورية غادة السمان فراق مدينتها دمشق ومسقط رأسها وتعددت أعمالها المُكناة باسمها مثل روايتها: (يا دمشق وداعاً – فسيفساء دمشقية) وفي ديوان (رسائل الحنين إلى الياسمين) قالت السمان: «أحببت دمشق بجنون المراهقين كما في حكايا الحب الكبيرة، لا مفر من شجار العشاق والفراق».
وقال أحمد شوقي في النكبة: «سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ.. وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ»، وكما هي نبراس مُلهم هي أيضاً منارة ثقافية، حيث كانت دمشق المهد الأول للمسرح العربي الحديث في القرن التاسع عشر الذي أسسه أبو خليل القباني، كما تأسست أول دار سينما عام 1916. أما عن عراقة المكتبات الدمشقية، فتعتبر المكتبة الظاهرية من أقدم المكتبات في مدينة دمشق، وصُنفت من ضمن أهم المكتبات العربية لاحتوائها على نفائس الكتب، وهناك مكتبة النوري التي تأسست منذ العام 1950ومكتبة دمشق أيضاً التي تأسست مطلع الخمسينيات، وافتتحت مكتبة الأسد الوطنية في وسط العاصمة دمشق في منتصف الثمانينيات، وأخذت على عاتقها مسؤولية المحافظة على التراث الثقافي السوري والعربي من خلال الحفاظ على المخطوطات النادرة. ويمكننا العثور على أرخص سوق للكتاب على أرصفة دمشق المتاخمة لسور جامعة دمشق في مناطق مثل الحلبوني الممتلئة بالمكتبات وهي مقر تجمع لمعظم دور النشر والمطابع، كما يواظب أيضاً اتحاد الكتاب على إقامة معارض كتب داخل الجامعات، وتلقى تلك المعارض إقبالاً كثيفاً من الطلبة، مما يعكس الوعي بأهمية المعرفة ودورها في مد جسور الازدهار الثقافي والفكري بين الأمس واليوم.

دمشق التاريخ.. والبيان
من جانبه يطلق د. يوسف حطّيني، المحاضر في برنامج اللغة العربية بجامعة الإمارات، على المدينة لقب «دمشق.. أبجديّة الياسمين»، يقول: كيف للمرء أن يكتب عن دمشق التي نام في حجرها ذات طفولة شقيّة؟ وكيف يفهم معادلة الأزلية والأبدية في وقت معاً، قبل أن يدرك أنّ الصَّبيّة التي تحتضنه وتحتضن كلّ عاشق من عشّاقها، لا تريد أن تشيخ، على الرغم من أنها تحمل في قلبها ذكريات ما يقارب أحد عشر ألف عام من الحب والشعر والكبرياء والتحدي.
ويضيف: كيف له أن يكتب عن دمشق التي شرب من مائها وتفيّأ ظلال أشجارها، ولفحته شمسها التي وزعّت حصتها بالعدل على أغنياء الشام وفقرائهم، على أحيائها الراقية وأطرافها الفقيرة التي تشبه عناقاً حميماً بين الحجر والصفيح؟ وهل يمكن أن يفيَ دمشق حقّها في الكلام، وهي الموجودة قبل الأبجدية، وهي الكونية التي اتّسعت لكل عاشقيها، وصهرتهم في قارورة من الياسمين.
إنها دمشق التي تحمل من الحب بقدر ما تحمل من التحدي، تُقري منذ الأزل ضيوف القوافل على طريق الحرير، وتوزّع الأدعية بحب على قوافل الحجيج التي تمرّ بها نحو مكة المكرمة، وتقاوم بجبروتها الطامعين الذين أرادوا النَّيل من جمال وجهها، وعزّة ترابها الذي احتضن صلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس ويوسف العظمة، فتفتّحت السّهول برقوقاً وجوريّاً وبنادق.
هي دمشق التاريخ الذي دوّنه ابن عساكر، وهي البيان الذي يبدأ منه وحي القلم، وإليه ينتهي. تحاول أن تعدّ فرسان الكلمة فيها، فلا تكاد تحصيهم: أديب إسحاق ومحمد كرد علي وشفيق جبري وفخري البارودي ونزار قباني وغادة السمان وياسين رفاعية وكوليت خوري.. وآخرون؛ فإذا أصخت السمع لقاسيونها وجدته يردد أصداء صوت البحتري:
أَمّا دِمَشقُ فَقَد أَبدَتْ مَحاسِنَها/ وقد وفى لك مطريها بما وعدا
فلستَ تبصرُ إلا واكفاً خضلاً/ أو يانعاً خضِراً أو طائراً غرِدا

اقرأ أيضاً:
بيروت.. ملهمة المبدعين
بغداد.. ذاكرة قرون ذهبية
الإسكندرية.. جوهرة العالم القديم

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©