السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

فاروق الباز لـ "الاتحاد الثقافي": العرب في غيبوبة

فاروق الباز لـ "الاتحاد الثقافي": العرب في غيبوبة
13 سبتمبر 2018 04:01

حوار: عبير زيتون

من الصعب الإحاطة بالحضور العلمي الباذخ، ببصماته، ومناصبه العلمية الرفيعة، ونحن في حضرة عالم، من طراز رفيع، مثل الجيولوجي المصري الكبير د. فاروق الباز أحد أشهر علماء الفضاء في العالم، وأشهر العارفين بتضاريس القمر، وباطن الصحراء في عصرنا الحديث، وقد فرض نبوغه العلمي في جيولوجيا القمر، فلقب بملك القمر خلال عمله مع وكالة ناسا الأميركية، أشهر الوكالات الفضائية في العالم في الرحلات الست لهبوط الإنسان على سطح القمر، وأبرز من قام بتطبيق تكنولوجيا الاستشعار عن بُعْد، وتطبيقات الصور الفضائية لاستكشاف المياه الجوفية في الأراضي القاحلة، والتي أدَّت إلى استكشاف موارد المياه الجوفية في كل من مصر، السودان، الصومال، سلطنة عمان، ودولة الإمارات العربية المتحدة.

ولد العالِم فاروق الباز الرئيس المتقاعد بمركز أبحاث الفضاء بجامعة بوسطن الأميركية، وعضو أكاديمية الهندسة الأميركية بواشنطن، في عام 1938م، في قرية طوخ الأقلام في محافظة الدقهلية المصرية، ونال شهادة البكالوريوس في علوم الجيولوجيا عام (1958) من جامعة عين شمس، وأكمل دراسة الماجستير في جامعة ميسوري للعلوم والتكنولوجيا، التي نال منها عام (1964) شهادة الدكتوراه في علوم الجيولوجيا الاقتصادية. ويعتبر الباز من أكثر علماء مصر تقلداً لمناصب علمية رفيعة، ترتبط بإنجازاته العلمية، وقد شغل أكثر من خمسة مناصب كبرى، آخرها مدير أبحاث الفضاء في بوسطن، ونائب رئيس مركز العلوم والتكنولوجيا في مؤسسة آيتك لأجهزة التصوير بمدينة ليكسينغتون، بولاية ماساتشويتس، ومؤسس ومدير لمركز دراسات الأرض والكواكب في المتحف الوطني للجو والفضاء في معهد سميثسونيان في واشنطن، فضلاً عن عضويته في أكثر من (40) من المعاهد والمجالس واللجان العلمية حول العالم، ومشاركته في المجالس الاستشارية لمجلات علمية عالمية عدة. وتتجاوز القيمة العلمية الضخمة لمنجز الدكتور الباز، وهو رئيس المجمع العربي لبحوث الصحراء، المساحة التي ارتبطت بمناصبه العلمية، وفي رصيده العالمي أكثر من (250) ورقة علمية، و(32) جائزة عالمية منها: جائزة أبوللو للإنجاز من وكالة ناسا، وجائزة البوابة الذهبية من معهد بوسطن الدولي، و(25) مؤلفاً علمياً، منها: أبولو فوق القمر، وهي مذكرات الباز حول أشهر رحلة إلى القمر، وكتاب الصحراء والأراضي الجافة، إلى جانب كتاب ممر التنمية والتعمير: وسيلة لتأمين الأجيال القادمة في مصر.
ورغم انشغالاته العلمية، والبحثية الكثيرة، إلا أن د. فاروق الباز ومن مقر إقامته، في ولاية ماساتشويتس الأميركية، لبى دعوة «الاتحاد الثقافي» لحوار خاص، بكل صبر، ومحبة، ودقة مدهشة في التعامل مع عنصر الوقت، فكان الحوار التالي، الذي حاولنا فيه قدر الممكن، أن نطرح أسئلة متشعبة في تنوعها، تغطي تطورات تشهدها الساحة الإماراتية خاصة، والعربية عامة، ونحتاج اليوم، لقراءتها بعيون عالِم عربي، ترك بصماته الخالدة في مدونات تاريخ العلم الحديث.


* كيف يحب د. فاروق الباز، أن يقدم نفسه لقراء صحيفة «الاتحاد» الإماراتية؟ وقد شغلت أرفع المناصب العلمية؟
** أنا جيولوجي عربي، من مصر، حاولت خلال (60) عاماً منذ تخرجي في جامعة عين شمس بالقاهرة في عام (1958) أن أنقل العلم والخبرة التي اكتسبتها إلى الناس في كل مكان، خاصة الشباب في الدول العربية. وأسعدني الحظ أن أشارك في العمل مع وكالة الفضاء ناسا لمدة ست سنوات من عام (1967 إلى 1972) في مهمتين رئيستين: اختيار مواقع هبوط رحلات أبوللو على سطح القمر، وتدريب طاقم رواد الفضاء على وصف القمر بطريقة جيولوجية علمية، وتصويره بالأجهزة الحديثة المصاحبة، وجمع العينات المطلوبة. وبعد انتهاء برنامج أبوللو بدأنا في تطبيق ما تعلمناه في دراسة الأرض من الفضاء، في دراسة تضاريس الصحراء، وتحديد أماكن تجمع المياه الجوفية فيها.

* عُرف عنك شغفك بعلوم الصحراء، وكنت قائداً، ومستشاراً لأكثر من فريق عمل بحثي في صحارى هذا الكون الشاسع عامة، وصحراء الخليج خاصة؟ هل من جديد في بحوثكم في باطن الصحراء خليجياً؟
** بعد انتهاء مشروع رحلة أبوللو لاستشكاف القمر، اختارتني «ناسا» مدرباً لرواد (رحلة أبوللو- سيوز الأميركية- الروسية المشتركة) للتصوير من مدار الأرض عندما تنطلق في يوليو (1975). عندئذ بدأتُ في التخطيط لتصوير الأرض من الفضاء، بناء على ما تعلمناه من رحلات أبوللو إلى القمر. قررت في ذلك الوقت تصوير الصحراء العربية، لقلة المعلومات عنها، وفي نهاية سبعينيات القرن الماضي دعاني الرئيس الراحل أنور السادات وطلب مني، كمستشار علمي، أن أخطط لدراسة الصحراء المصرية، في غرب النيل، وذلك لدعم رؤيته في غزو الصحراء. حينها بدأت المعلومات تتراكم عن الصحراء، وأصبحت الصور منبعاً مهماً للمعلومات الجديدة عن بلادنا، وتضاريسها، ومنافعها. وبعد فهمنا لتضاريس الصحراء المصرية، بدأت أبحث في تضاريس الصحارى العربية، خاصة في منطقة الخليج العربي. واتضح من هذه الدراسات أن المنطقة كانت تزخر بالأمطار في قديم الزمن، وأن المياه الجوفية المخزونة تحت سطح هذه الصحارى، هي ما تجمع من العصور الجيولوجية. لذلك استمر اهتمامي بدراسة الصحراء العربية، طيلة 38 عاماً، ولغاية الآن، بحثاً عما ينفع الناس. وهذه هي صفة أرقى التجارب والأبحاث العلمية.

* ما هي آخر الأبحاث العلمية التي تجريها وكالة ناسا للفضاء اليوم؟ وما هو جديد مشاريعها؟
** ما زالت رحلات «ناسا» تجمع معلومات عن المجموعة الشمسية وبالتحديد كوكب المريخ، خاصة عما يماثل تضاريس الأرض فيه، مثل وجود الثلوج تحت سطح التربة، والتي يمكن أن تحتوي على مياه للاستخدام في رحلات مستقبلية.
* وماذا عن إطلاق «ناسا» مسبار باركر سولار بروب في مهمة للاقتراب من الشمس، من مسافة لم يقترب إليها أحد سابقاً؟ ووصفت في الصحف بالتاريخية في مجال اختراق الغلاف الجوي للشمس؟
** لا أعرف الكثير عن هذا المشروع أكثر مما نُشر في الأخبار. ولكن بلا شك هذا المشروع مهم للغاية، بالنسبة للتعرف إلى ما يحصل في الغلاف الجوي للشمس؛ لأن درجة حرارة هذا الغلاف، تزداد كلما ابتعدنا عن سطح النجمة؛ لذلك يهتم المتخصصون التعرف على مدى ذلك وأسبابه.

* أسئلة كثيرة تدور في الصحف المصرية حول أسباب توقف ممر التنمية الذي طرحتموه في كتابكم ممر التعمير، والممتد من مدينة الإسكندرية على ساحل البحر المتوسط شمالاً، حتى الحدود السودانية جنوباً، ووصفتموه، حسب الكتاب، بمشروع القرن الحادي والعشرين (!!)، لماذا توقف تنفيذ المشروع؟

** ممر التنمية هو مقترح تقدمتُ به كتابياً بعد دراسة عميقة لصحراء مصر الغربية، ووجدته حلاً مناسباً لمشاكل عديدة في مصر، منها ضمور الأراضي الصالحة للزراعة حول النيل، وثانياً خيبة الاقتراض من البنوك العالمية لشراء الغذاء للناس في مصر الدولة التي كانت تغذي كل من حولها في الماضي (!!!)، وثالثاً فتح مجالات العمل للشباب في مجالات عدة.
دراسات مقترح المشروع أكدت أنه يحتاج لعقد من الزمان لإكماله، وميزانية قدرت حينها بحوالي (28) مليار دولار. مثل هذا المشروع لا يمكن لحكومة القيام به (في وقت كان معدل بقاء الحكومة هو عدة أعوام فقط)، وتلزمه خطة لمشروع يتم الكسب فيه بعد عقد من بدايته. لذلك لم توجد الحكومة القادرة على تنفيذ مثل هذه الفكرة إلى الوقت الحالي.

* لو بقيتم في الوطن (مصر) دون السفر للخارج، هل كنت تتوقع تحقيق ما حققته في مسيرة العلم عالمياً؟
** بوضوح واختصار وعقلانية: لا.

* تجربتك الشخصية والعلمية أثبتت للعالم إمكانات العربي المتواضع القادم من قرية (طوخ الأقلام) في دلتا مصر، وهو لا يحمل سوى شهادة في علم الجيولوجيا، أن يكون (ملك) و (سيد القمر) إحدى الألقاب الكثيرة التي تُطلق عليك اليوم؟ هل الشغف العلمي، هو المحرك الوحيد، والكفيل لتجاوز كافة معوقات الطريق، والارتقاء بها كإنجازات ستُخلد طويلاً في مدونات تاريخ العلم الإنساني؟

** نعم، وأهم ما في القصة هو أنني عندما شاركت العمل مع وكالة ناسا لم أكن أعلم شيئاً عن القمر. وكان هذا دافعاً أساسياً لتركيزي على جمع العلم، والمعرفة، لكي أثبت لزملائي في العمل أنه يمكن أن أكون مفيداً، ومضيفاً إلى علومهم ومعارفهم، وإلا فلن يحترموني – هذا ما جعلني أعمل ليل نهار، لكي أعرف أكثر من أي واحد منهم، وهذا أيضاً جعلني موضع احترام وتقدير من قبلهم.

عن الإمارات وتجربتها
* لكم ذكريات حارة، وحيَّة مع الأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وقد حظيتم بلقائه مرات عدة مع فريقكم العلمي. الآن وأبناء زايد يحتفلون بعام زايد، ماذا تقول لقراء «الاتحاد» من ذكرياتك معه؟
** يسعدني كثيراً الاحتفاء معكم بذكرى مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي أحببته كثيراً كإنسان وقائد مهتم بجمع العلم، والمعرفة، والتعرف على ما خلقه الله لنا وحولنا.
فعلى مدى ثلاث سنوات من عام (1976 - 1974) استمتعت بلقائه والحديث معه، والإجابة عن أسئلته الذكية - سواء بمفردي، أو مع رواد الفضاء، أحضرتهم معي لشرح المزيد من المعلومات حول القمر، والفضاء. لقد كان حريصاً على التعرف على وسيلة السفر، وجمع المعلومات عن القمر والأرض.
وفي عام (1974)، زرته وحدي لأروي له ماذا تعلمنا من (6) رحلات إلى سطح القمر، وكيف نقوم بإعداد الخرائط، وما هي النتائج العلمية لرحلات أبوللو. ولأنه كان يتوق إلى التعرف على كيفية التعامل مع بيئة القمر، شاركني في الزيارة الثانية في عام (1975) الرائد جيمس إروين الذي هبط على سطح القمر في رحلة أبوللو 15 ، وسأله حينها الشيخ زايد كثيراً من الأسئلة الذكية عن الحركة، والتنقل خلال تلك الرحلة. وأخيراً في نهاية عام (1976) أتى معي للقاء الشيخ زايد ثلاثة رواد من رحلة (أبوللو - سيوز) في مدار الأرض، وسألهم عن مشاهداتهم عن الصحارى العربية من الفضاء.

* في أقل من ربع قرن، تحولت الإمارات اليوم إلى مختبر وبيئة علمية متخصصة بإبداع علوم المستقبل، وصناعاتها، وقد أطلقت مؤخراً، أول منصة عربية للمختبرات العلمية تقوم على بنية تحتية متطورة بمستلزماتها اللازمة. كيف تقيم ما وصلت إليه الإمارات العربية المتحدة، الدولة الفتية، في أقل من نصف قرن على صعيد علوم المستقبل؟
** لا شك في أن دولة الإمارات العربية المتحدة، تفوقت في وقت قياسي على نفسها، وعلى دول أكثر منها دخلاً، وتعداداً، وتاريخاً. وفي نظري أن الطفرة العلمية والحضارية والإدارية والثقافية بالإمارات، نبعت من رؤية صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، «حفظه الله»، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذين يؤمنون بقناعة حقيقية، أنه ليس هناك ما هو مستحيل. وقد أثبتوا ذلك بإيمانهم المطلق بعقل وقدرة طاقات الشباب، نساء ورجالاً، ويبذلون جهوداً كبيرة ومتواصلة لدفع هذه الطاقات إلى أعلى المراتب. وأنا أُحيي شباب الإمارات، وجهودهم في إثبات أنهم أبناء زايد وقادرون على الوصول إلى أعلى ما وصلت إليه مراكز العلم والتكنولوجيا بالجهد والمثابرة.

* دخلت الإمارات بشكل رسمي السباق العالمي لاستكشاف الفضاء مع إنشاء وكالة الفضاء الإماراتية، والعمل على مشروع إرسال أول مسبار عربي وإسلامي إلى كوكب المريخ بقيادة فريق عمل إماراتي شاب؟ كيف تنظر إلى أهمية هذه الخطوة العلمية؟
** (مسبار الأمل) أحد ظواهر الاهتمام العلمي الجاد بأبناء الإمارات مستقبلاً، ودعمهم للمشاركة في علومه مع أكثر التكنولوجيات تعقيداً.. والكثير من العلماء اليوم، يترقبون ما سوف يبثه المسبار من معلومات مهمة عن صفات الغلاف الجوي لكوكب المريخ، لقلة المعلومات لدينا عنه. ويسعدني كثيراً أن أزور الإمارات بين الآونة والأخرى، لتقصي ما وصل إليه شبابها في هذا المجال المعقد، والحيوي. كما يسعدني أن الإمارات العربية المتحدة، قد قررت إرسال من يمثلُ شبابها من النساء والرجال، في رحلة إلى المدار الأرضي على متن المحطة العالمية الفضائية.

* كيف تنظر إلى قرار حكومة الإمارات العربية باعتماد الاستثمار في علوم الفضاء كأحد الأعمدة الأساسية في خطتها التنموية المقبلة، وتخصيص ما يقارب (20 بليون درهم) من ميزانيتها، للاستثمار في تقنيات الفضاء (في الوقت الذي يُقدر حجم الاستثمار العالمي في علوم الفضاء بـ (30 مليون درهم)، كيف تقرأ انعكاسات هذا التوجه مستقبلاً على اقتصاد البلاد؟
** يدلُ دخول الإمارات العربية في الاستثمار بعلوم الفضاء بهذه القوة والجرأة، على توجهها إلى إحداث انعطافة في مسيرتها التنموية، وإلى ثورة اقتصادية، ليس لها مثيل في تجارب العالم العربي، مع السعي الحثيث لإرساء البنية التحتية في هذا المجال، بما يعود بالنفع على كافة طبقات المجتمع. وهذا يعني أيضاً في واقع الأمر، أن دولة الإمارات تُعدُ نفسها جيداً لمستقبل مشرق، يتمتع فيه رجالها ونساؤها بفعل المشاركة، بما يخدم الإنسانية جمعاء. وما يثبتُ ذلك، هو التفوق الاقتصادي الواضح، الذي حصل في كل الدول التي تقدمت في مشاريع الفضاء.

* اهتمام الإمارات العربية باستشراف المستقبل، وتكنولوجيا المستقبل، بات خياراً استراتيجياً حيوياً يقوم على ركيزتين أساسيتين لا تَحيدُ عنهما ألا وهما: تبيئة العلم، وإعداد الكوادر الوطنية الشابة، بعد تجهيزهم بعلوم المعرفة اللازمة؟ كيف تقَيم قدرة هذه الركائز على تحقيق طموحات البلاد العلمية مستقبلاً؟

** يمكننا قولُ الكلام نفسه عن دور الحكمة، وأهمية الوعي الاستشرافي في عملية قراءة المستقبل. وأعتقد أن هذا هو ما سيؤهل النشء، ويعدهم إعداداً محكماً، لمجابهة التطورات المستقبلية، والتعامل معها، وفق لغتها وتطوراتها. وهذا هو ما سيحمي شباب البلاد، وأهلها أيضاً من أي تأخر عن ركب الحضارة المستقبلية التي ستشهدها البشرية. لذلك فإني أعتقد أن دولة الإمارات العربية، ستكون قادرة بهذه الجهود على مواكبة، وصناعة لغة المستقبل الخاصة بها.

* تتفرد حكومة الإمارات العربية باهتمامها الكبير بعنصر الشباب كأولوية في مسيرة التنمية الشاملة، ويتجلى ذلك بديمومة المبادرات والاستراتيجيات الوطنية، والقوانين التي تنفذها الدولة، والمتعلقة بتمكين شبابها، وتحفيز الارتقاء بقدراتهم، وأدواتهم ومهاراتهم؟ كيف تنظر إلى رهان الدولة على عنصر الشباب اليوم؟
** نعم إن هذا الاهتمام بالشباب هو في نظري أعظم، وأهم ما تقوم به دولة الإمارات، عبر دعمهم، وتشجيعهم. فالدول القابلة للتطور، والنمو هي الدول التي تُولي أهمية لهذه الطاقات الفتية، وتعمل على دمجها، واستثمار طاقاتها في بناء الواقع نحو المستقبل. وما تفعله الإمارات هو عين الصواب الذي نطمع فيه مع باقي الدول العربية. ونتمنى أن تستفيَد هذه الدول من التجربة الإماراتية، عبر إتاحة الفرص المناسبة لتأهيل طاقات شبابها، وزجهم في سوق العمل.

عن العرب وأحوالهم* ما يُحضر في مطبخ العالم اليوم للمستقبل، كما تجلى في منتدى دافوس الأخير يُبين الفارق المخيف بين المجتمعات التي تخطط وتعمل من أجل تقدمها، وتلك التي لا تزال تعيش في الماضي، وترفض الانفتاح على العالم. برأيك هل سيكون لنا كعربٍ، مكان في المستقبل مع كل هذه المعطيات؟

** على وجه العموم، مازالت الدول العربية في غيبوبة عما يحصل في بقية العالم. لا هي قادرة على اللحاق بالغير، ولا هي قادرة على بناء مجتمعاتها. لذلك فهي مازالت تتخبط سياسياً، ويتدهور اقتصادها، وتموت همم شبابها، تحت وطأة المحسوبية في البحث عن فرص عمل، ويتدهور التعليم، والصحة، وكلما غَرقت، ازدادت معها الخزعبلات، والفوضى وعدم الثقة بالغير، مع اختفاء مفهوم المواطنة، وقيمة الإنسان.
لذلك، لا تشغل مجتمعاتنا العربية، اليوم، فكرها بما يحصلُ أو ما سيحصل في المستقبل، لأنها تعيش في غفلة، وكأنها تحت وطأة مخدر، لا يؤهل الفكر السليم للعمل في سبيل المستقبل. هذا الوضع المؤسف لا يسمح بأي مشاركة عربية عالميا، مع أي تقدم علمي أو اقتصادي، أو حتى ثقافي. يلزمُنا أن نرى لماذا وصلنا إلى القاع لكي نبدأ بنقاشٍ حقيقي لخطوات الخروج من هذا الواقع المؤسف، لكي يتمكن شبابُنا من تغيير المسار إلى الأحسن رويداً رويداً.

* التشريعات العالمية تنادي اليوم بالحق في التعليم الذكي، بدلاً من الحق في التعليم العادي مع استعداده لدخول الثورة الصناعية الرابعة.. فيما تشير الوقائع، المأخوذة من القمّة العالمية للحكومات التي عقدت في دبي (فبراير) 2017، إلى حقائق رقمية تقول: إن (57 مليون عربيّ) لا يعرفون القراءة والكتابة، (5 ملايين طفل عربيّ) لم يلتحقوا بالمدارس في ذات العام، و (30 مليون عربي) يعيشون تحت خطّ الفقر، و (20 ألف كتاب) فقط ينتجه العالم العربيّ سنويّاً، و (410 ملايين عربيّ) لديهم (2,900 براءة اختراع) فقط، بينما (50 مليون كوري) لديهم 20,201 (عشرون ألفاً ومئتان وواحد) براءة اختراع (!!!)، كعالم عربي هل هذه المؤشرات الرقمية، هي علامات انقراض للحضور العربي اليوم؟ ومن المسؤول عن هذه الأرقام؟

** هذه الأرقام حقيقة مزعجة. إنها مأساة أن يكون هناك (57 مليون عربي) لا يعرفون القراءة، والكتابة، ناهيك عن خريجي الثانوية، أو حتى الجامعات، الذين لا يعرفون كتابة خطابٍ يعبر عن رأيهم بشيء ما، ولا يملكون القدرة حتى على قراءة بحثٍ ثم تلخيصه. كلُ هذا يثبت تدهور التعليم العربي على جميع مراحله، وصولا إلى الجامعات. بالتالي طاقات شبابنا العلمية الحالية، حتما لن تستطيعَ إضافة أي جديد للعلم، والمعرفة، فما بالك ببراءات اختراع؟ وهذا الكلام يؤكد مرة أخرى ضرورة إعادة النظر، بمسألة إصلاح التعليم من الألف إلى الياء. دون ذلك ستستمر المأساة العربية بلا نهاية.

* منذ ثلاثينات القرن الماضي وسؤال شكيب أرسلان لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرنا؟ يلاحقنا لغاية اليوم؟ برأيك لماذا تخلفنا لغاية اليوم؟
** تَخلفنا لأن العقلَ العربي توقفَ عن التفكير، ووضعَ كلَ طاقاته في استفتاء أهل الدين على شكلياتٍ، لا تقدم أيَ منفعةٍ لا فكرية، ولا حتى علمية. العربي اليوم مهموم بالمأكل، والملبس، وبالحلال والحرام، لأمور شكلية، وسطحية، لا تتصل بمفهوم الدين الإسلامي بشيء، مع كثَرة هذه الاستفتاءات من هنا، وهناك. لذلك أخذ التدين اليوم مظاهَر مخيفة، تقوم على الشكل، و «الهيئة» لا سابق لها في تاريخنا. ففي عصر ازدهار المسلمين احترموا العلم والمعرفة، واحترموا أهلها من كافة الأديان والطوائف، وسعوا إلى الاستفادة منها. وما يجري اليوم في واقعنا، هو دليل على غياب الوعي والتفكير السليم. فكلما قلَّت المعرفة، ازدادت الشعوذة، وازداد معها ضياعُ الإنسان العربي، فهو ليومنا هذا مستهلك سلبي، يستفيد من كافة تطورات العلم، ويرفض التفكير بعقله. ديننا الحنيف، يحثنا على حياة لا تمييز فيها، ويعمل على إسعاد الإنسانية جمعاء - بما يرضي الله - فالإيمان هو مسألة بين العبد، وربه، وليس بين الفرد، والشيخ أو الواعظ.

* كعالم عربي مغترب، كيف تفسر ظاهرة طغيان التطرف الديني في مجتمعاتنا؟
** ليس هناك من شك أننا قد تخلفنا اجتماعياً وفكرياً وعلمياً، ربما كان سبب ذلك هو التطرف الديني، أو انشغال العقول بما هو غير معقول، على يد أناس ادعوا العلم والمعرفة، وهم جهلة. على رجال الدين عامة أن يعودوا إلى دورهم في تطوير اللغة العربية، وشرح أصول الدين عندما يُسألون عن ذلك، وأن يبتعدوا عن بث الدعوة المتطرفة، بين صفوف الشباب ذكوراً، وإناثاً، دون وعي لآثار عملهم هذا، ومخاطره الجسيمة على أي مجتمع، يرغب في أن يعيش بسلام.

* بعض المفكرين العرب يرون أن مواجهة الفكر المتطرف الراهن يحتاج إلى عملٍ نقدي عقلاني تنويري، يضع جميع الأديان، والنصوص تحت مشرحة الفحص العقلي، بقراءة معاصرة، جديدة تبتكر أنماطا جديدة من التفكير، تحرر فيها المخيالَ العربي من إيديولوجيات دينية مكتسبة، ومتطرفة تشوه فيها أصل الدين، وعالميته الروحانية؟ ما هي وجهة نظرك بذلك؟

** مواجهة الفكر المتطرف الراهن، لن تنجح ما لم يتم إصلاح التعليم من الألف إلى الياء. لا بد أن يشملَ ذلك، تدريبَ العقل العربي على مناهج البحث، والتساؤل، والتفكير، والاستنتاج، والكشف، والاستقصاء بعيداً عن التلقين، والحفظ، والجمود الفكري. لا بد أن يشملَ الإصلاح، إفساح المجال لطاقات الشباب في التفكير، والإبداع، والعمل بعد إعدادهم لمواكبة التقدم العالمي عالمياً في جميع مجالات العلم والمعرفة، حتى لا يقع أحد منهم فريسة سهلة لهذا الطوفان الكئيب.

* برأيك هل إصلاح التعليم العربي، يمكن من عقلنة الثقافة العربية وتحويل خطابها من خطاب وجدان إلى خطاب العقل ومن الانفعال إلى مرحلة الفعل - كما يقول الجابري - للارتقاء بالثقافة العربية، وطبيعة المحتوى فيها بما يحرر طاقات هذا العقل العربي؟
** أؤكد مسألة التعليم الجيد فهو الوحيد القادر، على إخراجنا من هذا الوادي المظلم، لتحسين ذهن الفكر، والتفكير. ولا أجد حلاً آخر سوى إصلاح التعليم العربي، والاستفادة من تجاربنا القديمة في عصور ازدهار المسلمين. علينا أن ندرس عصورهم، ونقرأ أسباب تطورهم، فكرياً وعلمياً. نحن قادرون على ذلك عندما نؤمن بأهمية هذا المخرج، وعندما نغلِب مصلحة شعوبنا، ولغة التفكير العلمي في سلوكنا ومعارفنا، حينها تتغير المعطيات، وتتحول إلى تفكير منطقي، يجمع بين العقل والوجدان. وهذه حاجة البشرية اليوم، ألا وهي التوازن بين العقل والعاطفة، وأي إخلال فيهما حتماً سيختل التفكير والسلوك معه.

* برأيك، هل في وسع المثقف العربي اليوم أن يلعب الدور المُرتجى في التحول، والتغيير المنشود في مواجهة قوى التقليد والتكلس السائدة، والمهيمنة على المجتمع والفكر؟ وكيف له ذلك في عالم عربي هو الأقل إنتاجاً للثقافة، والأدنى استهلاكاً لها؟

** كان القول السائد في خمسينيات القرن الماضي يقول: القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ واليوم إنتاج القاهرة الفكري لا يتعدى الواحد في المائة (1%) مما كان عليه في الماضي. واليوم إن طبعت بيروت شيئاً، فلن يجد هذا الكتاب من يقرأه في بغداد. أقصد بكلامي أن الثقافة العربية تدهورت تدهوراً شديداً، ولا أجد مع هذا التدهور، ما نحدد به من هو المثقف العربي (!!) وأين نجده (!!) وكيف نحكم عليه؟ طبعاً هناك من يكتب، ويبدع قصصاً، وأشعارا، ومن يحلل. ولكن هذه الإبداعات لا تصل في معظمها إلى الناس التي لا تقرأ، أو لا تحترم ما تقرأ. لذلك فالمثقف العربي ينفخ في قربة مخرومة، كما يقال. بمعنى أنه لابد من إصلاح التعليم، أولاً، حتى يحصل المثقف العربي على دور يليق به.

عن شؤون العربية وشجونها
* كيف تنظر إلى أهمية اللغة العربية في التأسيس لأي مجتمع معرفي، وأهمية تعلم اللغة العلمية والتكنولوجية باللغة العربية، كي تبقى حية أمام اللغات العربية، وقد ترأستم عام (2012) لجنة تحديث اللغة العربية، ضمن إحدى مبادرات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، للنهوض بواقع الضاد؟

** لغتنا العربية مرنة للغاية، ويمكن لمستخدمها الخوض فيها بأي فكر بما في ذلك العلوم. الدليل على ذلك هو أن الكتب العالمية المرموقة ما بين أعوام (700 و1400 هجرية) كانت بعمومها باللغة العربية. ويشهد التاريخ أن ترجمتَها، من العربية إلى لغات الدول الأوروبية، هو ما سمح ببدء النهضة في أوروبا. لذلك يجب علينا إعادةُ إحياء العربية في حياتنا اليومية والمعرفية والعلمية عبر الترجمة والممارسة لها.

* كيف تنظر إلى أهمية نشر الثقافة العلمية في مجتمعاتنا، ليس فقط كمعلومات، بل نحو تأسيس علاقة معرفة واحترام متبادلة، وفق بوتقة يتفاعل فيها الفكر مع الممارسة، لتجاوز السلوك الاستهلاكي، والتعامل السطحي مع التقنية وتطوراتها؟

** نشر الثقافة العلمية في المجتمع أمر مهم جداً، لأن العلمَ هو جزءٌ أساسي من المعرفة. وازدياد المعرفة، يؤهل حسن السلوك، والتعامل الأفضل مع المتغيرات، خاصة في عصر يتغير كل عقد من الزمان (!)، والثقافة العلمية، تؤهل للحفاظ على البيئة، ولحسن الإنتاج الزراعي والصناعي. كذلك تؤهل المعرفة العلمية، لكيفية التعامل مع المتغيرات العلمية، وتؤهل الجيل الصاعد للقيام بالأبحاث المهمة، التي يمكن تطبيقها في إنتاج ما هو جديد.

* كيف يتعامل د. الباز مع الأدب وقراءة الأدب؟ ماذا يقرأ هذه الأيام؟ ومالذي تعنيه له القراءة؟

** استمتع كثيراً بقراءة التاريخ للتعرف على أحوال الناس في قديم الزمن، فمثلاً آخر كتاب قرأته هذا الشهر، كان عن صلاح الدين الأيوبي وكسبه للحروب الصليبية. أسعدني كثيراً احترام الكاتب الأوروبي، لشخصية القائد المسلم الكردي الأصل، وأعتبر أن هذه الأخلاق الحميدة، تأصلت نتيجة لفكر الدين الإسلامي السمح، في تلك الحقبة من الزمان.
أما اليوم، فأنا أقرأ كتاب كوكب واحد، وهو كتاب أهداه لي مؤلفه الصديق الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود. وهو كتاب يروي قصة أول زيارة عربية للفضاء، قام بها الأمير سلطان حين انطلق على متن مكوك الفضاء يونيو عام 1985.

* كلمة أخيرة من عالم جيولوجي عربي وصل إلى أرفع المراتب العلمية، بجهوده ومثابرته، لشباب اليوم؟

** أولا أود أن أشجع شباب الإمارات إناثا، ورجالاً على الاستمرار في القراءة في المعارف الإنسانية بأنواعها كافة، ومن أي مصدر متاح، وبأي لغة. إن العلم والمعرفة، هما الشيء الوحيد الذي يبقى مع الفرد إلى الأبد. وأتمنى من شباب الغد إماراتياً، وعربياً، الحرص على اللغة العربية، وتطويرها عبر الممارسة اليومية، والاطلاع على معارفها، وعلومها. فهي هويتنا وقيمتنا ووجودنا.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©