السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أكاديميون ومبدعون يناقشون رهانات وتحديات القصة القصيرة جداً

أكاديميون ومبدعون يناقشون رهانات وتحديات القصة القصيرة جداً
15 أغسطس 2018 20:22

ثمة انشغال كبير بمصطلح «القصة القصيرة جداً» أو «ق. ق. ج»، ما بين متحمس لها، داع لكتابتها، وبين رافض لهذا الجنس الهجين الذي يراوغ بين جماليات الشعر والسرد، وخاصة بعد صدور مجموعات قصصية كثيرة في الآونة الأخيرة، بل وعقدت لقاءات نقدية تناقش هذا الجنس الأدبي الذي برز فجأة واستشرى بين الكتّاب.. لكن ورغم ذلك يظل هناك غياب حقيقي للتأريخ له، متى بدأ؟ وهل تعود جذوره لقصيدة النثر أم أنها تعود للقصة الومضة وقصة اللحظة، التي نظّر لها يوسف إدريس كثيراً؟ هل لهذا الجنس الهجين سمات وجماليات خاصة؟ وما هي التحديات التي تقابله؟

«الاتحاد الثقافي» طرح هذه الأسئلة على عدد من كتّاب القصة ونقّادها، الإماراتيين والعرب، وجاءت إجاباتهم لكي تقرّ باختلاف الموق من هذا النوع الأدبي الجديد، لكنها تتفق على ضرورة منحه الفرصة ضمن شروط إبداعية هي نفسها التي تحاكم النصوص الطويلة:

فن صعب
ترى الروائية والقاصة والناقدة المصرية هويدا صالح: إن النقّاد اختلفوا حول هذا الجنس الأدبي، فمنهم من رحّب به وتحمّس له، ولهؤلاء النقّاد منطقهم، فهم يعتقدون أن الحياة في راهنيتها سريعة ومتلاحقة ولا تترك الفرصة والوقت الكافيين لكتابة النص الطويل أو حتى قراءته، وأننا لابد لنا أن نبحث عن وسيلة للتعبير جديدة، وأن للقصة القصيرة جداً مناسبة لهذا الظرف، لأنها تختزل العالم بمشاكله وتناقضاته وتعبّر عن هذه الحياة بشكل مكثف يخضع لكل هذه المواصفات.
وهناك فئة أخرى ترى عكس ذلك، حيث رفضت هذا الجنس الأدبي جملة وتفصيلًا، واعتبرته مستنسخاً عن أجناس أدبية أخرى. واعتبروا كذلك أن كل من يكتب في هذا المجال، إنما يستسهل الكتابة الأدبية، التي تحتاج في حقيقة الأمر إلى مجهود فكري ولغوي وقدرة عالية على الإبداع الفني والجمالي، وأن هذا الجنس الأدبي إنما يختزل الأحداث ولا يهتم بالشخوص بالشكل المطلوب في كل عمل قصصي، مما يساهم في تمييعها. وأنها لا تقدم ملامح واضحة تميّزها عن غيرها من الأجناس الأدبية، فهي ليست بالشعر ولا بالنثر. إن هذا الاختلاف وهذا الجدل الطويل حول القصة القصيرة جداً، وهذا الغموض التي يكتنفها يطرح كثيراً من الأسئلة، وتحوم حولها كثيراً من الشكوك.
لكنني شخصياً لا أنشغل كثيراً بهذا الحماس أو الرفض، إن الفيصل الوحيد الذي يحكم ذائقتي كمبدعة وناقدة هو مدى ما تقدمه هذه النصوص من الخصائص السردية لفن القصة، هل يتوفر لهذا النص ما يجعلني أقول إنه نص سردي اختزل العالم وكتب بلغة تراهن على فكرة النسيج السردي، وابتعد عن المباشرة، وقدم اللحظة القصصية في كثافة وعمق أم مجرد بوح لغوي لا يعرف من السردية إلا الاسم. إن كتابة القصة القصيرة جداً الناجحة صعبة جداً لأنه مطلوب من الكاتب أن يقبض على العالم في بضع جمل، أن ينفذ إلى قلب وعقل المتلقي ببضع جمل، أن يوصل حالة سردية في أقل عدد من الكلمات.

غموض ونمطية
ويرى الروائي والقاص التونسي محمد بوحوش أن القصة القصيرة جداً تواجه تحديات تتمثّل في مدى صمودها واستمرارها كنوع أدبي من بين أنواع كثيرة، علاوة على مدى تقبّلها من قبل القرّاء لتخلد في ذاكرتهم كجنس سرديّ مختلف. وبناء على ذلك لا بدّ لها من أن تتميّز بمقوّماتها لاسيّما من حيث عناصر: الحكائيّة والتّكثيف والإيجاز واللّغة المخصوصة، التي تميل إلى لغة الشّعر، والدّهشة والإرباك والصّدمة والمراوغة، وهي الخصائص التي تسم القفلة عادة.
هذا إلى جانب التّنويع في الشّكل والاستفادة من روافد أخرى كالفنون البصريّة والسمعيّة ومختلف الأجناس الأدبيّة المجاورة.
غير أن المشهد الحالي للقصة القصيرة جداً يحمل الكثير من الصعوبات والمعوقات، من ذلك أن جانباً هاماً مما يكتب تحت هذا العنوان يتسم بالغموض والنمطية، وعدم وضوح الفكرة، والاختزال الشديد جداً إلى حد يضيع معه القارئ، فلا يكاد يمسك بشيء غير الأفكار المطلقة والاستيهامات الجوفاء واللغة المشبعة بالمجاز، فلا يجد بذلك العناصر الأساسية الجالبة والمكونة للقصة القصيرة جداً.
كذلك فإن التحدي الأكبر في المستقبل القريب والبعيد سيكون منحصراً في مدى جاذبية هذا النوع الأدبي، وما يمكن أن يطرحه من موضوعات لا بد أن تكون منتجة ومتفاعلة مع انتظارات المتقبل وحاجياته وهمومه وذوقه.
وهو أمر ممكن على اعتبار أن القصة القصيرة جداً تواكب عصر السرعة لكونها كبسولة سردية تغني عن الإطالة والحشو والثرثرة والتفاصيل المملة، لتقدم الجوهر والمختصر والمفيد بتحلية لغوية تستفيد من الشعر، وبشيء من التنويع في الشكل وتقنيات السرد. ومن جهة مغايرة فإن الرهان أو التحدي الآخر هو ضرورة إشاعة وترويج هذا الفن في صفوف القراء وبخاصة الناشئة ليترسخ كنوع أدبي، ويتعايش مع أنواع أخرى، ويجد له مكانة على صعيد النشر والتوزيع.

الأرنبة والثعلب
وتقول القاصة الإماراتية لولوة المنصوري: القصة القصيرة جداً طريقة سردية جريئة في إحداث الصدمة، هي ضربة واحدة في الإدهاش، لكن الضربة تترك زلزالاً، هكذا أراها، ولا ينبغي استسهال الكاتب بها، يحتاج المبدع إلى قوة الضربة التي تتراكم مع الزمن بالتروي والتأمل وبتشكل الرؤى الفلسفية العميقة والسبر الفكري والثقافة الروحية، والكفاءة الآلية المتفردة، وإلا سقط في شباك أدب الخاطرة العابرة، وكتابة النكت والألغاز والنوادر. القصة القصيرة جداً تعني الإدهاش والإغراب والسحر الفني، وتترك القارئ مشدوها حائراً أمام شاعرية النص المختزل إيجازاً واختصاراً وسخرية، تعني التكثيف، المفارقة، الرمز والإيماءة والتلميح والإيهام، وتعني أيضاً نهاية متوهجة واخزة محيرة. وهذا الفن يتماشى مع عصر القلق والسرعة والعولمة والتعب الذهني والزحام النفسي، وسيجد له مكاناً في المستقبل كما أوجد له جذوراً في الثقافة اليونانية والتراث العربي، وهناك نموذج منه ورد على لسان العرب في عالم الحيوان، حيث تحكي القصة أن «الأرنبة التقطت ثمرة، فاختلسها الثعلب فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى القاضي.. فقالت الأرنبة: إني وجدت ثمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب، قال: لنفسه بغى الخير، قالت: فلطمته، قال: بحقك أخذت، قالت: فلطمني، قال: حر انتصر، قالت: فاقض بيننا، قال: قد قضيت».

أسباب وشروط
وترى الروائية الإماراتية فتحية النمر أن السرد القصير هو النص الذي لا يتجاوز حجمه سطوراً قليلة وأحياناً سطراً واحداً، وهو نوع من السرد بشكل عام وفي الوقت نفسه مستقل وقائم بذاته ويختلف تماماً عن السرد الطويل كالرواية والقصة القصيرة.
ويرى البعض بأن هناك مبررات تاريخية وثقافية واجتماعية وفكرية وحياتية دفعت الكتاّب إلى اختراع هذا اللون، ويختصرونها في الإيقاع السريع للعالم وفي مشكلة الإعراض عن القراءة عند الناس بشكل عام وربما كان في هذا شيئاً من الصواب والحقيقة. فالعالم يهرع نحو التغيّر والتحوّل بصورة مخيفة وغير مسبوقة وكأنه في سباق محموم، وما سينطبق على كل شؤونه سينطبق بالطبع على هذا الجانب الحيوي والمهم.
وفي رأيي: أن يقرأ الناس نصوصاً قصيرة جداً تعطيهم بعض ما يحققون به أحلامهم وأشواقهم وتعينهم على فهم أنفسهم ومن حولهم ومن ثم العالم ككل، خير لهم من أن يبقوا في دائرة الظلام والجهل والمحل خاصة أن البدائل كثيرة لا تخفى علينا، وعلى رأسها ما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تخلو من الغث والعبث والتشويش والفوضى. وهنا علينا نحن الكتاب بألا نكابر وألا نصّر على أنهم إما أن يتبعونا وينهلوا من معين نصوصنا الطويلة، التي ربما صارت غير مطلوبة لدى شرائح كبيرة من المجتمع خاصة الشباب، أو أن ندعهم يقعوا في الفخاخ المنصوبة لهم على مدار الوقت.
علينا أن نجعل من النصوص القصيرة جداً التي راجت وراقت نماذج جديرة بالتقدير وصالحة للقيام بالدور التنويري الذي يسعى إليه الفن والأدب بكل أشكالهما بمثابة جرعات كافية لإشاعة النور والجمال والحق والعدل والتسامح والانفتاح، بدلا من إعطاء الفرصة للظلام والشر لكي يسودا ويهيمنا. ومادام الأمر هكذا فإن هناك شروطاً على مبدعي النصوص القصيرة جداً المعول عليها لنشر الوعي والثقافة اتباعها كي تليق بإنسان العصر الحديث:
ـ التكثيف والاختزال الشديد بمعنى أن يعبر عن رؤيته للعالم أو لجزء منه بأقل قدر ممكن من الكلمات حيث لكل كلمة دورها الذي لا يستغنى عنه.
ـ التصوير البلاغي عوضاً عن السرد المباشر على ألا يتناسى الكاتب هنا بأن استخدامه اللغة الشعرية لا يعني المبالغة في المجاز بشكل يحكم على نصه بالاستغلاق والإبهام وبدل أن يحقق للقارئ المتعة يسبب له الملل والتذمر والنفور.
ـ العفوية حيث لا تكلّف ولا تصنّع.
ـ اشتمال النص على سائر شروط القصة من حدث وشخصية وفكرة ورؤية ومضمون.
ـ الإدهاش والمفارقة والتي تظهر أكثر ما تظهر في النهاية والختام.
وأخيرا فإن هذا اللون مهم وممتع وفاعل إذا ما أخذ حقه من الاهتمام من لدن الناص والمتلقي والناشر وسائر المؤسسات الثقافية.
هناك كتّاب محترفون أبدعوا نصوصاً قصيرة جداً ناضجة وعميقة ومؤثرة، وممن قرأت محمد خضير من العراق وزكريا تامر وإسلام أبو شكير، ومن الإمارات عائشة الكعبي وعائشة عبدالله وبعض من نصوص آمنة الشامسي وغيرهن. في مقابل عدد كبير لا يستهان به من النصوص التي لا يمكن وصفها بالقصة القصيرة جدا لأنها تخلو من أهم الشروط التي لا يستقيم معها أمر هذا الفن الجميل. هي نصوص بين الخاطرة وقصيدة النثر ورغم أهميتهما إلا أن لكل فن طبيعته.

ميزان التسوية
أما الكاتبة المغربية سعدية بلكارح، فترى أن القصة القصيرة جداً التي تناسلت من رحم القصة، بمعايير ومقومات تميزها عن شقيقتيها الرواية والقصة القصيرة، وعن باقي الضروب المستحدَثة الأخرى.. تمييزاً يجعل القاص يستعمل بحنكته «ميزان التسوية» كالبنائين لضبط استقامة النص وعدم انزلاقه في تعريف آخر غير القصة القصيرة جداً. وهذا الميزان يؤتى المتحكمَ في آلياته، العارفَ بمقومات هذا الجنس التليد الذي رغم مرور زهاء النصف قرن من ظهوره ما فتئ يعاني من الاختناق بحبله السري. ولعل أهم عناصر القصة القصيرة جداً الحكاية والمفارقة.. فمتى غاب هذان العنصران حذا التصنيف الخاطرةَ أوما شابه من النثر. وحاد عن شرعيته المكوّنة من ثلاث كلمات: «القصة» تستوجب عنصر الحكاية. «القصيرة» تستوجب الاختزال وقِصر الحجم دون غلوّ حتى لا تفقد اسمها الشرعي. «جدّا» تضمين خاصيات عِدة كالتبئير والإضمار والترميز بحنكة دون الوقوع في بؤرة اللغز أو النكتة أو الشذرة. وأجزم أن القصة القصيرة جداً قد فرضت وجودها بثبات واستماتة، والدليل على ذلك هو هذا الجدل الذي أولاها اهتماماً كبيراً في الساحة الثقافية، وهذا الانكباب على إراقة المداد لتحضير مقاربات نقدية حولها، ترسيخاً لهويتها التي لا شك أنها في دورة تخصيب مستمر، سيؤتي نتاجه الطيب في المستقبل، ليكبر هذا المولود الهجين أخيراً ويأخذ تعريفه السيميائي الثابت، بعد كل هذه المخاضات والجهود الراهنة.

نموذج مطلوب
وتقول الكاتبة الإماراتية موزه عوض: أثارت القصة القصيرة جداً جدلاً حاداً في الساحة النقدية العربية، وتضاربت حولها الآراء والمواقف، وقد توزعت بين موقف يرى أنها مجرد ظاهرة أدبية مؤقتة ستذوب مع مرور الزمن، وموقف يرى أنها تلوين وتنويع داخل القصة القصيرة فرضه التجريب في النصوص الإبداعية، وموقف يرى أنها نوع سردي حديث، ناتج عن حاجات ثقافية، ومعرفية، وفكرية، وذوقية، جاءت استجابة لتطور طبيعي وتاريخي لسيرورة الأجناس الأدبية.
دائماً ما تشدني القصص القصيرة، وخاصة تلك النهايات المفتوحة، قد لا أجيد كتاباتها كثيراً ولكن لها رنة إبداعية متميزة. القصة القصيرة ثقافة إبداعية بكل الأحوال، وهي نوع من السرد القصير الذي يأخذ منحنى جميلا ومميزاً ولها طابع يميزها من كاتب وآخر. فبعض القصص تُشبه إلى حد ما السرد النثري وهذا منتشر في وقتنا المعاصر ويتقنه بعض كتّاب اليوم. القصص القصيرة لها جمهورها ومحبوها فهي بسيطة، ما يجعلنا لا نمل منها، وفيها انتقال من مكان إلى آخر أو أحداث مختلفة. والذي أراه أنها مطلوبة اليوم إلى جانب الروايات. ومما لا شك أنه لهذا الجنس الأدبي كتّابه في الخليج، وقرأت الكثير من النماذج لكتّاب إماراتيين وأيضاً لعدد كبير من الكتّاب الخليجيين، وأعتقد أن جمهور هذا النوع من النصوص يتنامى باضطراد.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©