الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القهر الاجتماعي «يقهرك» بسحْرِه

القهر الاجتماعي «يقهرك» بسحْرِه
9 أغسطس 2018 00:03

توفي المخرج السينمائي الكبير «نيلسون بيريرا دو سانتوس - Nelson Pereira Dos Santos» يوم 21 أبريل 2018 وقد أقفل 90 سنة من عمره، تاركاً وراءه تراثاً سينمائياً استثنائياً وتجرية إبداعية وجمالية فريدة. يعتبر من رواد السينما الجديدة في البرازيل؛ بل هناك من يعتبره «الأب الروحي» لهذه الحركة السينمائية التي أعلنت جدَّتها وتمردها على الأساليب التقليدية والسائدة في الممارسة السينمائية في البرازيل؛ وقد دشن ما يعرف بـ «السينما الجديدة - Cinema Novo»، مع كل من «ري دي كيرا - Ruy De Guerra»، و «كلوبير روشا ـ Glauber Rocha».

بلورت هذه السينما الجديدة «استراتيجية» مغايرة على مستوى الكتابة السينمائية، حتى وإن كان لأفلام الواقعية الجديدة الإيطالية تأثير على «دو سانتوس» بالتحديد، إلا أن ما يشكل «أصالة» هذه السينما يتمثل في غوصها وتجذرها في الواقع العيني للمجتمع البرازيلي، اعتماداً على أساليب جديدة في الإنتاج والإخراج والصياغة الدرامية، لمّا وظّف «دوس سانتوس» ممثلين غير محترفين، وديكورات طبيعية، وأطّر لقطات اعتماداً على الضوء الطبيعي، فضلاً عن حركة الكاميرا التي غالباً ما تكون محمولة على الكتف، تحركه في ذلك مقتضيات معالجة سردية تصرّ على الالتصاق بحرارة الواقع وتكشف عن معاناة الإنسان.

الواقعية النقدية
بعد تجارب أولى مع الفيلم القصير أخرج «دو سانتوس» فيلم «الجفاف» Vidas Secas سنة 1963. وهو فيلم اقتبسه عن رواية «كراسيليانو راموس» بنفس العنوان؛ بحيث سيدشن بفضله مرحلة ينعتها النقاد والباحثون بـ «الواقعية النقدية»، لأنه أصرَّ على إبراز قساوة الوجود ومظاهر الاضطهاد التي يعيشها الإنسان بسبب الجفاف والبؤس والاستغلال.
ولأن فيلم «الجفاف» يُعدّ فيلماً تأسيسياً للسينما الجديدة في البرازيل - كما هو الحال، إلى حد ما، مع فيلم «سارق الدراجة» (1948) لـ «فيتوريو دي سيكا» بالنسبة للواقعية الجديدة في إيطاليا، أو «باب الحديد» (1958) ليوسف شاهين في إقامة سينما عربية ذات تجذر اجتماعي، أو الأفلام الأولى لممثلي «الموجة الجديدة» الفرنسية، وغيرها من الأفلام التي غيرت مسارات العديد من التجارب السينمائية العالمية- فإننا سنتوقف قليلا عند قصّة هذا الفيلم وعند أسلوب صاحبه.

العنف سينمائياً
إن فيلم «الجفاف» فيلم جاذب، يتضمن تصورا للوجود ورؤية للسينما ومعالجة أصيلة. يعرض عليك مظاهر القسوة بعنف هادئ من خلال صور في منتهى القوة. يتعامل مع صعوبات الوجود التي تفرزها الحياة اليومية للإنسان البرازيلي في الشمال الشرقي من البلاد، لدرجة يبدو لك فيها أن هذا الإنسان ينسج، دوما، تفاصيل حياته وعلاقاته العامة مع نمط خاص من العنف.
يفكر فيلم «الجفاف» في القسوة بوساطة السينما، ولم يخل الشريط من رغبة في ممارسة العنف على المتفرج أحيانا، من دون أن تغيب عن مخرجه رغبة مستمرة في التعبير بأسلوب يصل أحيانا إلى درجة الغناء. لذلك يبدو فيلم الجفاف لـ «دو سانتوس» وكأنه قصيدة شعرية وجودية يقرؤها علينا المخرج سينمائيًا.
هذان العنصران: العنف والشعر، هما اللذان يقدمان الجدلية الحقيقية لهذا الفيلم. إنهما المكونان الرئيسيان لبنيته العامة. يكشف العنف كل تفاصيل المعاناة والسحق والموت، في حين أن الأسلوب الشعري الخاص يرصد هذه التفاصيل بشكل يسعى إلى نفيها وإلغائها، من خلال التوهّم الدائم أو التطلّع إلى اقتناص لحظات فرح وحياة يحلم بها إنسان برازيلي مُعدم.
يحكي الفيلم عن أسرة تحيا فقراً مُدقعًا، تعيش متنقلة بين أطراف منطقة الشمال الشرقي في البرازيل. وهذه المنطقة كانت معروفة بقحطها وفقر سكانها. تتكون هذه الأسرة من خمسة أعضاء: الأب (فابيانو) والأم (فيتوريا)، طفليهما.. وكلبة. تأخذ الكلبة في الفيلم من اللقطات المُكبرة أكثر مما يأخذها بعض أعضاء الأسرة الآخرين، ولهذا نشعر أن الكلبة داخل الأسرة ليست عضواً ثانوياً أو مضافاً إلى الأسرة، وإنما هي عضو حاضر مع الأسرة مثلما يحضر الأب أو الأم أو الطفلان، وعنصر مكون في حياة الأسرة ككل.
جعل فقر هذه الأسرة تواجه كل مظاهر العنف والقسوة، تستكين وتستسلم لها تارة، وترفضها وتعلن غضبها عليها تارة أخرى؛ واستكانة هذه الأسرة ترجع أساساً إلى كون العنف يلدغ بمختلف أشكال القوة والقهر، ورفضها لها يتجلى في الحاجة الحيوية إلى التنقل المستمر ــ الذي لن يتوقف بعد نهاية الفيلم ــ كما في الطموح الدائم إلى إيجاد مكان يوفر بعض إمكانيات الاستقرار، وسبل ضمان وسائل العيش البسيطة.
وتتلخص عناصر العنف والقسوة في الفيلم في ثلاثة مصادر رئيسية:
* عنف وقسوة الطبيعة (الجفاف، القحط، الشمس المحرقة، وانعدام ما يمكن أن يسد الرمق...).
* عنف وقسوة المال والاستغلال (الذي يعرفه الرجل وأسرته حين عمل مع أحد مالكي الأرض والبهائم في المكان الأول والوحيد الذي عرفوا فيه استقراراً مؤقتاً).
* عنف وقسوة السلطة (التي تمثلت في ممارسات رجال الدرك والتعذيب الذي مورس على الرجل في السجن).
عنف الطبيعة والمال والسلطة يمثل المظاهر الأساسية في الفيلم. تتحالف وتتداخل وتتكامل لدرجة تجعل الإنسان فيها يعيش ضمن دائرة تطوقه وتحاصره حتى الاختناق. تلطمه الطبيعة بشراستها، ويستنزفه الاستغلال بوحشيته، وتقهره السلطة بجبروتها.

الزمن الغائب
لهذا اعتبرنا أن فيلم الجفاف هو تفكير في القهر والعنف والقسوة بوساطة السينما. يتخذ من حياة إنسان معذب موضوعاً له. حياة لا تستطيع أن تخلق زمنها، بحكم كونه مغتصباً من ثلاث جهات: الطبيعة، الاستغلال والسلطة. فالزمن الخاص للأسرة الفقيرة في الفيلم يكاد يكون غائباً، اللهم إلا إذا كان يعبر عن نفسه من خلال الطموح والقرار. طموح الأسرة إلى الاستقرار وقرار البحث الدائم من أجل تحقيقه. وهل يتحقق؟ إن الفيلم لا يجيب على هذا السؤال، لأنه ينتهي كما ابتدأ: تنقل، ارتحال... وبحث مستمر.
وحين وجدت الأسرة أول بيت في طريقها نزلت فيه، وحاولت أن تجد لنفسها نوعاً من الاستقرار؛ لكن سرعان ما ظهر أن الحلم ــ الحلم بالاستقرار ــ لا تتوافر شروطه، لأن هذا البيت يملكه رجل من ضمن ما يملك من أرض وبهائم. فطلب رب الأسرة من هذا المالك (وهو من إقطاعيي الأرض الكبار) أن يعمل معه ويسمح له ولأولاده أن يعيشوا في المنزل، فقبل المالك بشروط. مرت الأيام، وحضر الشتاء، وأنجبت بعض الأبقار والخرفان. حصلت الأسرة على الأجر الذي حدده مالك الأراضي، حسب تقييمه الخاص. لم يتفق رب الأسرة على المبلغ لأن زوجته تعرف شيئاً من الحساب – بطريقتها– وطلبت من زوجها أن يطالب بأجر قامت هي بتحديده، متصورة بشكل مسبق كيفية تصريفه قبل تسلمه. تحلم الزوجة – من ضمن ما تحلم به – بسرير من الجلد، بدل السرير الخشبي المتعب الذي ينامان عليه. وتحلم بتحقيق حياة مستقرة. حياة تشعر فيها المرأة أنها سيدة المكان (البيت) الذي تعيش فيه والمسؤولة عن تربية وتعليم أطفالها.
والظاهر في الفيلم أن المرأة هي العنصر الذي يسعى إلى خلق وتحقيق زمن مغاير بأساليبها الخاصة. وزمنها يقوم على نزوع حالم نحو استقرار غير مضمون؛ لأنه ليس رهينا بقرار ذاتي للمرأة ( أو للرجل) لأن مصادر العنف والقسوة المتمثلة في الطبيعة والمال والسلطة لا تسمح بإمكانيات تحقيق الحلم في الاستقرار، ما دامت هذه المصادر تلغي هذا الحلم وتجهض إرادة خلق الزمن الخاص للأسرة؛ بل ما يحضر، دوما، هو الزمن الوحشي للعنف والقسوة.

ما هو الجحيم؟
ويتجلى واقع العنف، في الفيلم، في صيغة سؤال يطرحه أحد الأطفال عن ماهية الجحيم؟ يذهب إلى أمه ليسألها وهي منهمكة في تهيئة الأكل في شروط من المحنة وعلى نار ملتهبة. وتجيبه بطريقة ملتوية. لم يقتنع الطفل، فيتوجه نحو أبيه لمعرفة جوابه على هذا السؤال. ويكون جواب الأب صمتًا مُطبقًا. ثم يعود إلى أمه مرة ثانية، مكرراً السؤال، ويلح في تكراره، فيكون جواب الأم لطمة قوية خرج الطفل إثرها يعوي ويبكي إلى أن يجلس تحت الشجرة أمام البيت، فيحتضن الكلبة بصورة تشعر فيها وكأن هناك علاقة قوية من التضامن بينها وبين الطفل. فيطرح الطفل السؤال على الكلبة ببراءة لعله يجد جواباً. إلا أنه في هذا الوقت يظهر أن المخرج بدل تقديم جواب لفظي يقدّم عناصر الجواب عن ماهية الجحيم من خلال الصور التي بناها لهذا المشهد، وهي تتقدم بجمالية وذكاء، وكأنها تريد أن تفيد ببساطة بأن الجحيم الحقيقي هو هذا القهر الاجتماعي، هذا النمط من العيش الذي تعرفه الأسرة. إن حياتها اليومية هي، في حد ذاتها، جحيمها اليومي. فليس الجحيم هو ذلك العالم الآخر الذي يذهب إليه الناس الأشرار أو مرتكبو المعاصي بعد الموت، كما أرادت الأم أن توهم طفلها، بل إنه نمط من الحياة، هو نفسه حياة الأسرة وواقعها وحاضرها.
هكذا يكون السؤال عن الجحيم وعن الموت في الفيلم تعبيرًا ساميًا عن واقع العنف والقسوة وحالة الفقر والكدح، بالإضافة إلى أن موسيقى الفيلم – وأي موسيقى! ــ عبارة عن صوت آلة تلدغ آذاننا وكأنها آلة مزمجرة أو صوت باب صدئ يزعج السمع. يُشبه عنف صوت الآلة في موسيقى الفيلم وقْع السؤال الذي طرحه الطفل عن الجحيم، كما أن جواب والده يماثل قتامة السماء وشراسة الطبيعة، مثلما ينسجم مع دلالات الصور التي تلتقطها الكاميرا. يوظف نلسون بريرا دوس سانتوس السحاب والسماء في الجفاف بشكل يذكرنا بإيزنشتاين وطريقته في إدخال هذا العنصر الطبيعي وتحويله إلى عنصر سردي.
وتنتهي الرحلة في الفيلم ببداية رحلة أخرى من أجل البحث عن الاستقرار الذي يتطلع كل كائن إلى تحقيقه لخلق بعض شروط الدفء والفرح، وإبعاد مظاهر العنف والقسوة. لذلك، قلنا، منذ البدء، إن فيلم الجفاف هو تفكير في العنف والقسوة بوساطة السينما بهدف تعريته وإدانته.
لقد عمل نيلسون بيريرا دو سانتوس ورفاقه في السينما الجديدة على جعل الصورة السينمائية البرازيلية أداة «نضالية» لكشف مظاهر الوجود البرازيلي في تنوعه واختلافه وتناقضاته وبؤسه. ولا ينطبق هذا الحكم على الصورة السينمائية فحسب، بل إن جورجي أمادو Jorgé Amado، وهو من بين أكبر الروائيين البرازيليين المعاصرين، يعتبر أن الأدب يتخذ من «الشعب البرازيلي بطلاً أساسياً له». وحتى حين حاول الأدباء والسينمائيون إحلال الطبقة الوسطى كشخصية في أعمالهم محل الشعب وتقديم مشاكلها البائسة والمصطنعة وكأن عوالمها تمتلك سموا وكونية، كما هو الحال في «التلينوفيلا - Télénovalas» أو في الأعمال التلفزيونية الأخرى، يشعر المرء بقطيعة مع تراث غني وتدن صارخ في الجودة والنوعية. ومن المؤكد أن الأدب، في نظر جورجي أمادو، والسينما عند نيلسون بيريرا دو سانتوس ليست لهما من وظيفة أسمى وأشرف من العمل على خدمة الإنسان وإدانة مختلف أشكال الإذلال التي يتعرض لها.

فيلموغرافيا
* نيلسون بيريرا دو سانتوس أحد مؤسسي حركة السينما البرازيلية الجديدة التي يطلق عليها «سينما نوفو».
* أخرج وكتب نصوص 25 فيلماً روائياً ووثائقياً، و 14 فيلماً قصيراً، و8 مسلسلات تلفزيونية.
* من أبرز أفلامه وأكثرها أثراً على السينما البرازيلية ومخرجيها: ريو 40 درجة عام (1955)، ريو، المنطقة الشمالية عام Rio Zona Norte، حياة قاحلة (1963)، ما ألذ زوجي الفرنسي (1971)، ذكريات كارثر (1984).
* عمل أستاذاً للسينما في عدد من المعاهد والجامعات البرازيلية والأميركية، مثل جامعة برازيليا، وجامعة فلومينانس الاتحادية، وجامعة كولومبيا، وجامعة أوكلاهوما، ومعهد سوندانس.
* كرمته كل من البرازيل وكوبا والبرتغال وفرنسا.
* حصل على العديد من جوائز المهرجانات العالمية مثل «كان» وبرلين والبندقية وأدنبرة وجنوا وهافانا ولندن ولوس أنجلوس ونيويورك وميلانو وغيرها.

تحت حكم العسكر
بعد استيلاء العسكر على الحكم في البرازيل (ما بين 1964 و1985) عمل «دو سانتوس» على إخراج أفلام اضطر فيها إلى اللجوء للغة مجازية للتعبير عن أفكاره وصوره. كما اقتبس في هذه الفترة روايتين للكاتب البرازيلي الكبير «جورجي أمادو» وحوَّلهما إلى فيلمين وهما: «دُكَّان المعجزات» (1977) و«باهيا كل القديسين» (1986)، مستهدفاً من خلالهما إبراز مظاهر الصراع بين النخب ذات النزوعات التقدمية والمضامين الصوفية والسحرية لمعتقدات العديد من شرائح المجتمع البرازيلي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©