الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأبواب.. حُجّاب

الأبواب.. حُجّاب
9 أغسطس 2018 00:03

ليس المعمار مجرد مكانية، بل هو لوحة فنية تُضمر نصوصاً ورموزاً ومعاني متنوعة، تتمتع بذاكرات متعددة، منها: ذاكرة آركيولوجية تجعلنا نبحث في حفريات طبقات الدلالة والتاريخ والجغرافيا، وذاكرة إبستيمولوجية، تحيلنا إلى ضرورة معرفية لا تفصح عن حضورها بعيداً عن المقطوعة الزمنية الشاملة لفترة من الفترات المعرفية ببنياتها النفسية والعلمية والأدبية والفنية والاقتصادية والسياسية والفكرية والسوسيولوجية، ولعل الباب من المفردات التي تتجلى فيها مثل هذه الحمولات المعرفية.

مفردة الباب، بحد ذاتها، تطوي في لفظها، وتُضمر في إيقاعها الصوتي كلاًّ من الانفتاح والانغلاق: (با/‏ ب)، شفوية، تجعل الفم مفتوحاً مع مصراعها الأول: (بَا)، ثم تجعله مغلقاً مع المصراع الثاني (بْ). ولعل أول باب عرفه الإنسان باب الإلهام، الذي قاده إلى الأبواب الأخرى، المكانية والرمزية والسرية والعلوية، ومنها: أبواب المغارات والكهوف، أبواب البيوت الطينية والقشية، أبواب الزقورات والمعابد والقلاع والحصون: قلعة دمشق، قصر الحصن في أبوظبي، حصن الشارقة، حصن الفهيدي في دبي، البستكية في دبي، أبواب الخيام، أبواب المكتبات والأسواق والمتاحف والقصور والقرى والمدن، وأبواب الشبكة العنكبوتية والدوريات من صحف ومجلات، ثم أبواب الفضاء المؤدية إلى القمر والمريخ والمجرات، وأبواب جهنم، وأبواب الجنة، أبواب الذاكرة والمخيلة والحلم.
ما (قبْل) الباب، أسرار الساكنين، ومجالس (الحرملك) الخاصة بالنساء، و(الزلملك) الخاصة بالرجال، وما (بعد) الباب انفتاح، يحيلنا إلى العديد من الذكريات، مثل الجلسات التي يتم فيها التحاور والتشاور وتناول القهوة والشاي وتبادل الأحاديث والآراء، وهي عادة معروفة في مدننا العربية القديمة التي ما زالت تحتفظ بآثار تلك الجلسات، ودلالات تلك الأبواب ورموزها وتاريخها وموروثها وحكاياتها وثقافة شعوبها، وما نتج عنه من أساطير وآداب وتفاسير ورسوم وفنون وأغان، كما أنها موجودة، أيضاً، في تفاسير الأحلام.

باب الأسطورة
من تلك الأبواب الباب الفاصل بين العالم السفلي (الموت) والعالم الأرضي (الحياة)، وكأنه (البرزخ)، ومن أشهر أبواب المقابر والقبور مدافن تدمر والفراعنة والرومان، ومن مشاهد الولوج بين العالمين، ذاك الذي اجتازته (عشتار) في الأساطير القديمة، عندما هبطت إلى الجحيم لإنقاذ أخيها (بعل)، قائلة لحارس البوابة: «أي، حارس البوابة، افتح البوابة، كي يتسنّى لي الدخول، وإذا أحجمت، سأهشّم الباب، سأحطم المزلاج، سأهزّ الأبواب، سأوقظ الموتى من سباتهم». وفي النهاية تنتصر عشتار للحياة، وتنجح باستعادة أخيها، متحدية المصائب، متغلبة على الحواجز، منتصرة للحياة.

باب الشعر
أمّا من أبواب المغارات الشعرية، المتطيّفة، الشفيفة، والمحيّرة في الآن ذاته، الباب الذي يتكاشف بين عالمين، جبلين، في حالات مختلفة: الغوص، الدفع، الدخول إلى الأزل، كما في هذا المقطع للشاعر عبد العزيز جاسم: «الباب الشفيف كالطيف، باب المغارة التي لا تردّ، والتي ستغوص فيها كما لو أنك تَدفعُ، جبلين طريين بكلتا يديك، حين تجد الحيرة ماثلة أمامك، مثل ثمرة الأزل، ولا تحيّرك؟».

باب الروح
الباب برزخ آخر للروح، واحتمال لرموز تتحرك بين الوعي واللاوعي، الواقع والمخيلة، وهو برزخ شفاف يعكس مرايا الأرواح التي يبصرها المتصوفون، المبدعون، الفلاسفة، المفكرون، العلماء، وغيرهم من المنصهرين بالشفافية الكونية الكينونية القابلة لكل التصيّرات والممكنات المتوالدات من أبواب المستحيل إلى أبواب اللامستحيل.
ولذا، تختلف تسمية الأبواب تبعاً للمكان: أبواب الكعبة المشرفة، أبواب دمشق، أبواب القدس، باب المدينة، باب المقبرة، باب البحر، باب (الخانات) وهي جمع (خان) المشابهة للفنادق، و(إطار دبي) المفتوح على دبي من كل الاتجاهات الذي تبدو فيه دبي القديمة والحديثة بأبعاد متنوعة ملونة، ومضيق (باب المندب)، وتبعاً للحرفة: (باب القطّانين)، (باب الحديد)، (باب الغزل)، كما تأتي التسمية تبعاً للدلالة المعنوية: (باب النصر)، (باب السلام)، أو تبعاً للقب ما، أو رسْم ما، أو منحوتة ما، أو تماثيل ما، مثل (باب الأسُود) و (باب الحيايا/‏ الأفاعي) في قلعة حلب. كما تختلف مواد بنائه من حجارة، طين، أخشاب، قشّ، لحاء الأشجار، المعادن، والمواد المصنَّعة الحديثة. وتتمتع أشكاله بهندسيات مختلفة (القوس/‏ المستطيل/‏ المربع)، ويتألف من (مصراع/‏ مصراعين/‏ ثلاثة مصاريع) كما في أبواب القدس، ويمتاز بتشكيلات فنية تتكامل مع تفاصيله من: مفتاح، مزلاج، نافذة، مقبض، ومطرقة تتخذ أشكالاً مختلفة (شكل اليد/‏ الكرة/‏ حدوة الحصان)، إضافة إلى الاهتمام بمظهره من زخارف ورسوم ورموز ونقوش وكلمات.

باب.. الحكمة
ومن متواليات التراث «البيت ما يندخل من بابه يندخل من احبابه»، بهذه الكلمات الوجدانية الدلالية، افتتحت فاطمة المغني رئيسة جمعية الدراسات الإنسانية، بابَ الكلام عن الباب، وتابعت: «الابتسامة» علامة الترحيب، وهي باب مؤدّ إلى القلب، ومدخل البيت الباب، ويدل على القيم والعادات المرتبطة بالباب، فلا يجوز أن يدخل أي شخص إلى البيت إذا لم يقل: «هُوْد..هُوْد»، وتدل على الاستئذان، ويأتيه الرد من الداخل «إهْدهْ..إهْدَهْ»، وهذا يعني بداية حرارة الاستقبال. الدخول من الباب يعني الأمانة والوفاء على عكس القفز من فوق الجدران وتعني الخيانة. ومن المتعارف عليه في مجتمعنا، بعض الأحاديث التي تدور بين الشباب، فيما إذا أحب فتاة وأراد خطبتها، يقال له: «تعرف بابهم». توجد (أبواب/‏ بيبان) مرتبطة بذاكرة الحصون والقلاع، وأبواب الحُكم، بيوت الحكم، وقلعة الجاهلي في العين، أبواب الصلح والمعاهدات التي حصلت بين القبائل والدول، وهناك بيوت بعض المتاحف مكتوب عليها الشعر، مثلاً بيت الشيخ سعيد بن حمد بن مايد القاسمي في كلباء، المكتوب عليه بيتٌ شعريّ من الحكمة والموت والحياة والوجود: «إذا لم يكن الحصن من الله مانعاً/‏ فلا السيف قاطعاً ولا الدرع مانعاً»، وحتى الآن، هذا البيت لم يُكسر لأنه يمثّل قيمة من قيم الوجود، وإذا انتقلنا إلى باب قلعة الفهيدي نجده (ينطق). وأغلقتْ باب كلامها مؤكدة: «الباب ينطق».

باب.. مفتاح
الشاعر د. طلال الجنيبي، يقول: «الباب من باب المدلول، يختزل فكرة الولوج إلى كينونة ما، فأيّ مبنى مهما بلغت ضخامته وما يحتويه من مساحات، لا يمكن أن تسبر أغواره إلاّ إذا ولجته، وعلى محدودية أبعاده، يمثّل المفتاح الحقيقي إلى روح المكان. وكل ما يمكن أن يوجد في أي كيان يحتاج للمرور عبْر الباب. وهذا الباب بأبعاده الثلاثة، هو فقط البداية والانطلاق لأية فكرة صغيرة تتسع لهذا العالم. والباب، من باب الذاكرة، هو مركز النظر، وذلك البعد الجماليّ الذي كثيراً ما يعوّض ضعف البناء، مثل البيوت الطينية وأبوابها التي تبرز الكثير من الجهد الجمالي المجسد بالنقوش والزخارف والدالة على شكل من أشكال الاحتفاء بالداخلين. والباب من باب سيكولوجي، دليل على السيطرة، سيطرة صاحب البيت أو المنزل، وحريته في استقبال من يشاء، أو منعه لمن يشاء. ومن أوجه التأويل، الباب هو المجاز الأول والتعبير الأكمل الذي ينقلنا إلى مكان أكثر شساعة، ومنها قصيدتي: (ألف باب للقلب)».

باب السلام
يؤكد المستشار التربوي محمد سعيد الطنيجي على اختلاف الباب في التراث الإماراتي حتى عن بعض الدول الخليجية، لأنه يفتح أول دلالاته وقيمه وعاداته على (السلام)، ثم المصافحة والجلوس، ولابد من توثيق إرثنا وترسيخه في أعماق الجيل الجديد، وهذا ما تحافظ عليه دولتنا والمسؤولون من خلال المهرجانات والأعياد والمؤسسات التراثية. ونطالب بإدراج موروثنا في مناهج التربية والتعليم إدراجاً تدريجياً واعتما منهج العادات والتقاليد، منذ الروضة، وهي أفكار طرحها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة. ومن المبادرات الجميلة أيضاً منهاج عن «إتيكيت البدو». إذا أردت أن تنتج شخصاً ذا قيمة، فلا بد أن تؤسس فيه ثلاث قيم: أولها المحافظة على العادات والتقاليد والهوية الوطنية، وثانيها الانفتاح، وثالثها التطور.
ويلفت عبد الله النظري، مرشد سياحي أول في منطقة حي الفهيدي التاريخي ومن مواليدها أيضاً، إلى ميزة أخرى هندسية حاجبة في الباب الأمامي (باب الضيوف)، قائلاً: هو باب قصير جداً، لماذا؟ ليغض الرجل الداخل النظر عن النساء الجالسات وسط البيت، ويمنحهن الفرصة لوضع غطاء الرأس (الشيلة).

باب البحر
تروي التشكيلية سلمى المري حكايتها مع الباب: باب بيتنا القديم يسمونه (باب البحر)، كان لونه أزرق ويطلّ على البحر، وكانت مطرقة يده مثل يد الأسد، ولها إيقاع خاص في الذاكرة، وتزينه مسامير نحاسية كبيرة، ووحدات زخرفية بسيطة، وكان هناك أكثر من باب في البيت، والباب الأساسي يسمونه (الدروازة) وهو عبارة عن بابين في باب واحد، باب صغير في باب كبير، الصغير للدخول والخروج اليومي يحتوي على (صفصوفة) باللهجة المحلية، وهي قفل صغير، بينما الكبير فلا نفتح مصراعيه إلاّ لإدخال المؤونة والأثاث والأشياء الكبيرة الأخرى، وله مزلاج. هناك باب جانبي بسيط لأصدقاء العائلة وأقاربها وجيرانها المقربين (أهل الفريج)، وباب أساسي للزوار والغرباء، وعندما كبرتُ ورمّمتُ بيت أبي الكبير، ذهبت إلى «الشندغة» وصورت الأبواب، ومن ضمنها بيت الشيخ سعيد. الأبواب تدلّ على قاطنيها، وأكملتْ: كان من لزوميات الأبواب أن تكون هناك شجرة كبيرة تظلل الأبواب والمنتظرين، مرحّبةً بالقادمين، مثل شجرة اللوز، أو شجرة (الشريش/‏ النيم) زهورها الجميلة الفواحة التي تعتبر صيدلية دوائية لعلاج الكثير من الأمراض.

باب سرّي

ثيمة الباب تفتح مصاريعها على الفضاءات، قارعةً نماذج مختلفة من الأبواب في القصص والروايات والشعر والأغاني الشعبية واللوحات التشكيلية، والحكايات التي تغلق بابها الأربعين السري، فاتحة جميع الأبواب الأخرى..
وبلا شك، تزخر الإمارات العربية المتحدة بأبواب ذات احتمالات ودلالات، وتنبع من ذاكرتها المكانية والمعنوية قصص وحكايات وروايات وأشعار وأغان ولوحات تشكيلية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©