الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صاحب «البردة» الناجي من النار

صاحب «البردة» الناجي من النار
20 فبراير 2013 20:44
الدكتور عارف الكنعاني كعب بن زهير، الشاعر المخضرم.. عاش قسماً من حياته في الجاهلية، وقضى معظم عمره في ظل الإسلام. هو صاحب القصيدة الخالدة على مر العصور «البردة» ولو لم يكن له غيرها لكفاه أن تنسب إليه وحدها لتجعل منه واحداً من أعظم شعراء الإسلام. هو كعب بن زهير بن أبي سلمى وأبو سلمى هو ربيع بن رياح المزني بن قرّة ابن الحارث وينتهي نسبه إلى الياس بن مضر بن نزار. لم يُتح له في الجاهلية أن يكون شاعراً مشهوراً، لا لأنه كان ابناً لأعظم شعراء ذلك العصر زهير، ولكن لأن قصيدته التي أنشدها أمام رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كانت قمة في بنائها ومعانيها، طرب لها النبي.. فألقى لقائلها ببردته الشريفة وكانت شرفاً لم ينله أحد من شعراء الإسلام غيره. وقبل أن نصل إلى حكاية هذه القصيدة، فلابد لنا من إلقاء الضوء على الشاعر كعب بن زهير صاحبها ومبدعها. انتمى كعب بن زهير إلى أسرة أقام الشعر في بيوتها وانطلق من فحولها وفرسانها فهو ابن الشاعر زهير.. وجده أبو سلمى شاعر أيضاً.. ومن شعراء هذه الأسرة كذلك عمة له يقال لها الخنساء، وهي غير الخنساء تماضر بنت عمرو أخت صخر ومعاوية وكانت شاعرة هي وأختها سلمى. حتي أخوه بجير بن زهير كان شاعراً، ولكنه سبقه إلى الإسلام بعد أن ردّ على قصيدة له يلومه فيها على اعتناق الدين الحنيف. والقصيدة التي أرسلها كعب لأخيه بجير لم تزد عن أربعة أبيات قال فيها: ألا أبلغــــا عنّــــي بجـــيراً رســــالةً فهل لك فيما قلتَ بالخيفِ هَلْ لكا ســـــقاكَ أبوبكـــر بكــأسِ رويــــةٍ فأنهــلك المأمـــون منهــا وعــلَّكا وخالفـت أســباب الهـدى وتبعتــهُ علـى أيّ شــيء وـيبَ غيـرك دلَّكـا علــى خلــقٍ لم تُلْــفِ أمــاً ولا أبــاً عليــهِ ولــم تــدرك عليـــه أخاً لَكــا وما إن تسلّم بجير هذه الأبيات من أخيه كعب حتى ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وألقى أمامه أبيات كعب فقال صلى الله عليه وسلم: ? صدق.. أنا المأمون وإنه لكاذب قال أجل لم يُلْفِ عليه أباه ولا أمه على الإسلام.. وقد ردّ بجير على أخيه كعب بأربعة أبيات قال فيها: مَن مُبلِغ كعبا فهـل لكَ فـي التـي تلـوم عليهـــا باطــلا وهــيَ أحــزَمُ إلــى اللــه لا العُـــزَّى ولا وحـــده فتنجـــو إذا كـان النَّجــــاء وتَســلمُ لَدَى يَـومِ لا ينجُــو وليـس بمُفلِــتٍ من النَّـاس إلا طاهـرُ القَلـب مُسـلِم فديــنُ زُهيـر وهـو لا شـــيءَ دينُــه وديــن أبـي سُــــلمى علـيَّ مُـحرَّمُ أما الخنساء الشاعرة تماضر بنت عمرو فهي ابنة عمته وهي أشهر من علم في رأسه نار.. عاشت في الجاهلية وأدركت الإسلام فأسلمت وقدمت أبناءها لنصرة الإسلام والمسلمين. حتى أحفاده بنت بنته سلمى العوثبان وابن بنته قريض كانا من الشعراء.. والسلسلة طويلة.. وهذا يؤكد أن الشعر يمكن توارثه. ولقد حاول زهير بن أبي سلمى أن ينهى ابنه كعباً عن الشعر وهو لايزال طفلاً عندما رآه وسمعه يحاول نظمه بعد أن حفظ الكثير من القصائد. كان زهير يخشى على ولده الصغير أن يحسب الشعر لهواً فينظم قصائد مهلهلة خاصة أنه لم يتعلم أصول اللغة بعد ولم يتعرف على خصائص الشعر الجيد. لم تذكر المراجع سنة ولادة كعب بن زهير.. كذلك لم تتفق المراجع على سنة وفاته فمن قائل: إنه توفي سنة 42هجرية-661ميلادية حيث أشارت بعض المراجع التاريخية إلى أن الخليفة الأموي الأول قام بشراء البردة التي وهبها صلى الله عليه وسلم لكعب بمبلغ عشرين ألف دينار. ومما رواه الأصفهاني في كتابه الأغاني: كان زهير ينهى كعباً أن يتكلم بالشعر مخافة أن يكون لم يستحكم شعره فيروى له ما لا خير فيه.. فكان يضربه في ذلك فكلما ضربه يزيد فيه فغلبه فطال عليه ذلك فحبسه فقال: ? والذي أحلف به لا تتكلم ببيت شعر إلا ضربتك ضرباً ينكلك عن ذلك. فمكث محبوساً عدة أيام ثم أخبر أنه يتكلم بالشعر فدعاه فضربه ضرباً شديداً ثم أطلقه وسرحه في بهمة وهو غليم صغير فانطلق فرعى ثم راح عشية وهو يرتجز: كأنمـا أحـدو ببهمـي عيـرا مـن القـرى موقـرة شــعيرا فخرج إليه زهير وهو غضبان فدعا بناقته فكفلها بكسائه ثم قعد عليها حتى انتهى إلى ابنه كعب ليعلم ما عنده من الشعر وبعد أن اختبره وطلب إليه أن يجيز أبياتاً وطرحها عليه وبعد أن برع كعب في إجازة هذه الأبيات قال له: أذنت لك في الشعر.. وهكذا نجح كعب بعد أن تحمل ضرب أبيه المبرّح لأنه ولد شاعراً ولم يستطع أبوه قتل تلك الموهبة أو إطفاء جذوة الشعر التي وضعها رب العالمين في قلبه.. وكان الحطيئة وهو ذلك الشاعر الفطحل راوية لزهير ولأسرته.. وهو الذي قال لكعب ذات يوم: ـ يا كعب.. أنت تعلم جيداً أنني من رواة شعر أسرتكم. ? ولكنك شاعر فحل يا أبا مُليكة. ? ? الحقيقة أن الناس أكثر تعلقاً بشعركم من شعري.. ولذا فإنني أطلب منك فضلاً. ? أطلب ما تشاء يا أبا مليكة. ? ? أريدك أن تقول شعراً تذكرني فيه.. فكل ما تقوله ينتشر بسرعة وهكذا سينتشر اسمي بسرعة كذلك. ? أبشر يا جرول بن أوس. ? ? نعم.. أنا جرول بن أوس.. الحطيئة. استجاب كعب لطلب الحطيئة وقال: فمن للقوافـي شـأنها من يحوكهـا إذا ما ثــوى كعــب وفـــوّز جــرولُ كفيتـك لا تلقى مـن النـاس واجـداً تنخّــل منهـــــا مثلمــــــا يتنخــــلُ لم يصلنا إلا القليل من شعر كعب بن زهير قبل الإسلام.. ولكن التفسير المنطقي لذلك أنه بعد إعلان إسلامه وفوزه برضى النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه وجائزته الكبيرة.. أخذ يتنصل من شعره القديم ويركز على الجديد الذي دخل فيه الفكر الإسلامي وتغيرت فيه المفاهيم والمواقف. لم يقتصر مدح كعب على النبي صلى الله عليه وسلم بل قام كذلك بمدح المهاجرين والأنصار كما قام بمدح علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في قصيدة من أجمل وأقوى قصائده وفيها يقول: إنّ عليـــــاً لميمـــــــون نقيبتــــــه بالالحـاتِ مــن الأفعــال مَشـــهودُ مقــاومٌ لطغــاة الشــرك يضربُهُــمْ حتى اسـتقاموا وديـنُ اللهِ منصـورُ يا خيـر مــن حملــت نعـلاً لـه قــدمٌ بعد النبــي لديــهِ البغــي مهجــورُ أعطـــاكَ ربُّــكَ فضـــلاً لا زوالَ لــهُ من أيــن أنـى لــــه الأيـــامَ تغييــرُ نصل الآن إلى حكاية قصيدة كعب في مدح الرسول والتي جاءت بعد أن كابر كعب وتطاول على النبي محمد وقد ذكرنا تلك الأبيات التي أرسل بها إلى أخيه بجير بعد أن التحق بالرسول الكريم وانضم إلى المؤمنين برسالته المجاهدين لنشرها. وقد أنشد بجير هذه الأبيات أمام الرسول شاكياً من ضلال أخيه كعب.. غضب صلى الله عليه وسلم من شعر كعب وأهدر دمه قائلاً: ? من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله. لم يستطع بجير أن يتخلى عن أخيه كعب ويتركه لمصيره المحتوم بل قام بمراسلته داعياً إياه إلى الإسلام.. فليس له مفر ولا نجاة من القتل بعد أن قام بالإساءة إلى المصطفى بشعره إلاّ التوبة الصادقة والدخول في دين الله. دارت الأرض برأس كعب.. وبدأت معالم الدين الحنيف تتوضح أمامه ليجد أن الإسلام ليس بعيداً عن فكره ومعتقده واستقر رأيه أخيراً على اعتناق الدين الحنيف.. ولكن ما السبيل إلى ذلك والرسول قد أهدر دمه.. .. وبدأت كلمات أخيه بجير تعلو في سمعه ولاتدع لأية أفكار أخرى مكاناً في عقله وفي قلبه. ? اسمع يا كعب.. خير ما تفعله هو أن تأتي إلى المدينة.. وتدخل إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم.. وتطلب منه العفو وتعلن التوبة وتدخل في دين الله مسلماً. ? ولكن كيف يا بجير؟.. الطريق إلى رسول الله محفوفة بالمخاطر.. ولو عرف أحدٌ من أتباعه مَن أكون قبل الوصول إليه لقتلني. ? لا خيار أمامك يا كعب.. جمع كعب شتاته وحزم أمره.. وسافر إلى المدينة. نزل في المدينة على رجل بينه وبينه صداقة.. ومعه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لم يكن النبي عليه السلام يعرفه. جلس كعب بن زهير بين يديه وهو يخفي اضطرابه ثم قال: ? يا رسول الله.. إن جاءك كعب بن زهير تائباً مسلماً.. فهل تقبل منه ذلك وهل تعفو عنه لو جئتك به. قال صلى الله عليه وسلم: نعم.. فصاح كعب: أنا هو يا رسول الله.. أنا كعب بن زهير.. فوثب رجل من الأنصار صارخاً: ? دعني أضرب عنقه يا رسول الله.. فكفّه النبي عليه أفضل الصلاة والسلام عنه.. وعند ذلك انطلق كعب بن زهير ينشد قصيدته بانت سعاد.. أو البردة.. تلك القصيدة التي طرب لها الرسول الكريم.. ولم يكن لديه ما يعطيه لكعب كمكافأة له إلا بردته.. فقدمها له وكانت خير جائزة حصل عليها شاعر منذ عرف الكون الشعر والشعراء. ونختار من هذه القصيدة: بانَت سُـعادُ فَقَلبـي اليَـومَ مَتبــولُ مُتَيَّـــمٌ إِثرَهـــا لَــــم يُفــدَ مَكبــولُ وَما سُــعادُ غَــداةَ البَيــنِ إِذ رَحَلــوا إِلّا أَغَنُّ غَضيــضُ الطَــرفِ مَكحــولُ تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَـمَت كَأَنَّـــهُ مُنهَــــلٌ بِالـــراحِ مَعلـــــولُ شُـجَّت بِـذي شَــبَمٍ مـِن ماءِ مَحنِيَـةٍ صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهُـوَ مَشـمولُ يا وَيحَهـــا خُلَّــةً لَـو أَنَّهــا صَدَقـَـت ما وَعَـدَت أَو لَو أَنَّ النُصـحَ مَقبــولُ لَكِنَّهـا خُلَّــةٌ قَــد ســيطَ مِـن دَمِهـا فَجــعٌ وَوَلــعٌ وَإِخــــلافٌ وَتَبديــــلُ فَما تَـدومُ عَلــى حــالٍ تَكــونُ بِهـا كَمــا تَلَـوَّنُ فـي أَثوابِهــــا الغــولُ وَما تَمَسّـَكُ بِالوَصـلِ الَّـذي زَعَمَـت إِلّا كَمــا تُمسِـــكُ المـــاءَ الغَرابيــلُ كَانَـت مَواعيـدُ عُرقــوبٍ لَهــا مَثَــل وَمــا مَواعيــدُهـــــا إِلّا الأَباطيــــلُ أَرجــو وَآمُــلُ أَن يَعجَلــنَ فـي أَبَــدٍ وَمـا لَهُــنَّ طِــوالَ الدَهـــرِ تَعجيــلُ فَلا يَغُرَّنَـــكَ ما مَنَّـــت وَما وَعَــدَتْ إِنَّ الأَمانِــــيَ وَالأَحــــلامَ تَضليـــلُ أَمسَـــتْ سُــــعادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُهـــا إِلّا العِتـــاقُ النَجيبــــاتُ المَراســـيلُ وَقالَ لِلقَـومِ حاديهِـم وَقَـد جَعَلَـت وُرقُ الجَنادِبِ يَركُضنَ الحَصى قيلوا شَــدَّ النهــارُ ذِراعــاً عَيطــلٍ نَصَــفٍ قامَــت فَجاوَبَهــــا نُكـــدٌ مَثاكيــلُ نَوّاحَةٌ رَخـوَةُ الضَبعَيــن لَيــسَ لَهــا لَمّا نَعـى بِكرَهـا الناعــونَ مَعقــولُ تَفــِري اللِبــانَ بِكَفَّيهـــا وَمِدرَعِهــا مُشـَقَّقٌ عَـن تَراقيهــــــا رَعابيــــــلُ يَسعـى الوُشــاةُ بِجَنبَيهـا وَقَولُهُــم إِنَّــكَ يَا بـنَ أَبــي سُـلمى لَمَقتــولُ وَقـــالَ كــُلُّ خَليـــلٍ كُنــتُ آمُلُــــهُ لا أُلفِيَنَّـــكَ إِنّـي عَنـــكَ مَشــــغولُ فَقُلـــتُ خَلّــوا ســبيلي لا أَبا لَكُــمُ فَكُـلُّ ما قَــــــدَّرَ الرَحمَـنُ مَفعــولُ كُلُ اِبـنِ أُنثـى وَإِن طالَـت سَــلامَتُهُ يَومــاً عَلــى آلَــةٍ حَدبــاءَ مَحمــولُ أُنبِئــتُ أَنَّ رَســــولَ اللَــهِ أَوعَدَنــي وَالعَفُـوُ عِنــدَ رَســولِ اللَــهِ مَأمـولُ مَهلاً هَـداكَ الَّــذي أَعطــاكَ نافِلَــةَ القُــرآنِ فيهــا مَواعيــظٌ وَتَفصيــلُ لا تَأَخُذَنّـــي بِأَقـوالِ الوُشــاةِ وَلَــم أُذِنب وَلَـو كَثُــرَت عَنّــي الأَقاويــلُ لَقَــد أَقــومُ مَقامـاً لَو يَقـــومُ بِــهِ أَرى وَأَســمَعُ مـا لـَو يَســمَعُ الفيــلُ لَظَـــلَّ يُرعَـــدُ إِلّا أَن يَكــــونَ لَـــــهُ مــِنَ الرَســـولِ بِإِذنِ اللَـــهِ تَنويـــلُ حَتّــى وَضَعــتُ يَمينـــي لا أُنازِعُــهُ في كَـفِّ ذي نَقِمـاتٍ قيلُـهُ القيـلُ المصادر والمراجع: 1- ديوان كعب بن زهير/ شرحه وضبط نصوصه وقدم له الدكتور عمر فاروق الطباع 2- الأغاني/ أبو الفرج الأصفهاني 3- لسان العرب/ ابن منظور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©