الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إدوار الخراط.. أنشودة الكثافة

إدوار الخراط.. أنشودة الكثافة
10 ديسمبر 2015 13:17
إيهاب الملاح ربما تمثل تجربة الكاتب والروائي الكبير إدوار الخراط (1926-2015) الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي عن تسعة وثمانين عاماً، أجرأ مغامرة إبداعية في تاريخنا الأدبي المعاصر، وأكثرها تمرداً على كل المواضعات والحدود الأدبية المتعارف عليها. تسعة وثمانون عاماً، عاشها إدوار الخراط، مخلصاً للتجريب المجنون، وكسر التقاليد النوعية، والتبشير بثقافة جديدة وخاصة، تقوم على استيعاب عميق لتراث الإنسانية في تجلياتها كافة. تتميز كتابات إدوار الخراط بالتجريب المستمر والمنفتح على الآخر، والرغبة الدائمة في الثورة على الثوابت. بالإضافة إلى الوعي النقدي الذي يوازي النقد الإبداعي. فضلاً عن الاحتفاء الشديد باللغة وولعه بكيفية تطويعها، وتستمد معظم رواياته هويتها من بيئته الشعبية في الإسكندرية. هذه الكتابات الكثيفة والمتنوعة والمدهشة في تكويناتها وأبنيتها الجمالية والفكرية، تهيمن عليها في الغالب شاعرية مفرطة وفريدة تعطيها مذاقاً خاصاً، وتضفي على عالم الأشياء فيها حياة متكاملة تتواكب فيها الأنغام والأصوات والمناظر واللوحات والروائح بمختلف درجاتها وأنواعها. النشأة والتكوين تتوافر بين أيدينا ثلاثة مصادر مباشرة عن حياة وسيرة الخراط، اثنان سجلهما بنفسه، بخطه ورسمه كما يقول التراثيون، والثالث بقلم آخر لكن اعتماداً على ما كتبه الخراط. الأولى، وهي ربما أوفى ما كتب الخراط عن سيرته المباشرة، سنجدها في الجزء الأول من كتاب «أعلام الأدب العربي المعاصر ـ سير وأعلام»، الذي وضعه روبرت كامبل اليسوعي، والثانية سنجدها في الجزء الأول من أعداد «الأدب والحرية»، الصادرة في مجلة فصول النقدية القاهرية، 1991، وفيها يسجل الخراط شهادة مطولة ووافية عن تصوراته النظرية للأدب والكتابة والإبداع وعلاقتها بالحرية، رابطاً بينها وبين روافد التكوين الثقافي والتشكيل الفكري له عبر مراحل من حياته وسيرته الغنية. ولد إدوار الخراط بالإسكندرية في 16 مارس 1926، لأب من إخميم في صعيد مصر وأم من غرب الدلتا في الشمال. حصل على ليسانس الحقوق عام 1946 من جامعة فاروق الأول (جامعة الإسكندرية)، وعمل أثناء الدراسة عقب وفاة والده عام 1943 في مخازن البحرية البريطانية في القباري بالإسكندرية، ثم موظفاً في البنك الأهلي المصري بالإسكندرية 1948. في شبابه المبكر، شارك في الحركة الوطنية الثورية في الإسكندرية أثناء دراسته الجامعية، فأسس حلقة تروتسكية كان سكرتيرها العام. وبعد إعلان الأحكام العرفية اعتقل في 15 مايو عام 1948، سنتين، في معتقلات أبو قير والطور، ضمن حملة اعتقالات واسعة شملت جميع النشطاء الشيوعيين والوفديين. وتمثل روايته المثيرة «طريق النسر» معالجة أدبية راقية لهذه التجربة الوطنية والثورية. عمل في منظمة تضامن الشعوب الأفريقية والآسيوية، ومنظمة الكتاب الأفريقيين والآسيويين من 1959 إلى 1983، وتنقل خلالها في وظائف مختلفة، كان من بينها منصب السكرتير العام المساعد لاتحاد الكتاب الأفريقيين والآسيويين. وشارك في إصدار مجلة (لوتس) للأدب الأفريقي الآسيوي وتحريرها، ومجلة (جاليري 68) الطليعية، وعدة مطبوعات أخرى لكل من منظمة التضامن الأفريقي والآسيوي واتحاد الكتاب الأفريقيين الآسيويين. وعقب انتهاء عمله بمنظمة تضامن الشعوب الأفريقية والآسيوية عام 1983، تفرغ للكتابة في القصة القصيرة والنقد الأدبي والترجمة ليترك (19) كتاباً مترجماً في القصة القصيرة والرواية والفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع، وعدداً كبيراً من المسرحيات الطويلة والقصيرة ترجمها للبرنامج الثاني (الثقافي) بإذاعة القاهرة، و(16) رواية و(04) مجموعات قصصية، ومن رواياته: «الزمن الآخر»، «أضلاع الصحراء»، «رامة والتنين» التي اعتبرت حدثاً أدبياً كبيراً ونالت تقريظاً نقدياً هو الأبرز بين أعماله، و«الزمان الآخر» وبعدد من القصص والروايات (وإن صعب تصنيف هذه النصوص) متحررة من الاعتبارات الأيديولوجية التي كانت سائدة من قبل. أما المجموعات القصصية فأشهرها «حيطان عالية» 1959، وهي أول مجموعة قصصية له، واعتبرت المجموعة منعطفاً حاسماً في القصة العربية، إذ ابتعد عن الواقعية السائدة آنذاك وركّز اهتمامه على وصف خفايا الأرواح المعرَّضة للخيبة واليأس، ثم «ساعات الكبرياء» و«اختناقات العشق والصباح»، و«محطة السكة الحديد». «الرواية».. مرايا التجريب والحداثة يحتل إدوار الخراط في ذاكرة الثقافة العربية المعاصرة مساحة خاصة وفريدة، إبداعياً وثقافياً، فهو اسم كبير ومتفرد في الكتابة الأدبية على مستوى مصر والعالم العربي، وتمثل أعماله اتجاهاً متطوراً في الكتابة الرمزية والحداثية، وظل لسنوات طويلة يمارس الإبداع والكتابة التجريبية دون أن يسترعي ذلك انتباه النقاد، فباستثناء دراسة أو دراستين على الأكثر، لم يحظ الخراط بدراسة وافية وشاملة تكشف عن ملامح وسمات مشروعه الإبداعي الضخم. إنتاج الخراط الأدبي، جاء متنوعاً بين الرواية والقصة والشعر، على خلفيات ثقافية وفكرية متنوعة أيضاً، ومتعددة الروافد، من أبرزها وأهمها، كما لخصها أحد دارسيه: التاريخ المصري القديم، التصوف في الديانات التوحيدية الثلاث، تقاليد المدرسة الرمزية بتطوراتها الفرنسية والإنجليزية المختلفة بدءًا من مالارميه وبودلير حتى ييتس، شبقية الماركيز دو صاد العنيفة، والتجربة الداخلية لدى الكاتب والمفكر الفرنسي جورج باتاي، مطعماً ذلك كله باستبصارات الكاتب الفرنسي المتميز موريس بلانشو. وقد أسهمت ثقافته الفرنسية الرفيعة، إلى جانب اعتداده الراسخ بمصريته، في استكشاف أساليب مبتكرة في الكتابة الأدبية وفريدة تأخذ في اعتبارها الشروط التاريخية الخاصة وتتجاوزها في آنٍ معاً. ومن أعمال إدوار الخراط التي سيكتب لها الخلود في الأدب المصري المعاصر خماسية ميخائيل قلدس، وتضم خمس روايات هي: «رامة والتنين»، «الزمن الآخر»، «يقين العطش»، «صخور السماء»، «طريق النسر». إذ أنها تروي أزمة الإنسان المعاصر بتعقيداتها على مستوى المضمون، وتقدم مثالاً نموذجياً للرواية التجريبية (رامة والتنين بشكل خاص) ذات المختبر الخاص، والبحث الضالع في جماليات اللغة، وقناع الذاتية. بالإضافة إلى اعتماد الكاتب على تكنيك تيار الوعي المتغلغل في نسيج النص، علاوة على ما تحمله «صخور السماء» من وجهات نظر ميخائيل قلدس في علاقته المعقدة والأخيرة برامة ناجي، بحيث يمكن القول بأنها «رواية شارحة» لثلاثية ميخائيل ورامة، ولأدب الخراط في مجمله. ناهيك عن حمولات رواية «طريق النسر» التي تتناول التجربة الوطنية والثورية التي عاشها الخراط في شبابه، وهي ثورية ممزوجة بالحب والرغبة، بمعنى أنها تجربة تحرر بمعناه الواسع. إسكندرية الخراط وفي مجمل أعمال الخراط، وخصوصاً في عالمه الروائي، يلحظ قارئه المدقق شريطاً احتفالياً متدفقاً تصاحبه الأناشيد والترانيم لبعض الأماكن التي ترتبط بذكرياته الحميمية والقارة في اللاوعي، كالإسكندرية وشواطئها، وحي راغب، وحي غيط العنب الذي قضى فيه طفولته، وبعض المواقع الأثرية الأخرى التي نراها في روايتيه «الزمن الآخر» و«حجارة بوبيللو» و«بنات إسكندرية» و«نصوص إسكندرانية ـ ترابها زعفران».. وغيرها، وهي الأماكن التي يضفي عليها هالة خاصة أو عبقاً فريداً يحولانها من مجرد واقع إلى عالم سحري تنفذ فيه الشاعرية إلى أبسط الأشياء. تتميز إسكندرية إدوار الخراط باستحضار مفردات الثقافة القبطية؛ العادات والتقاليد والطقوس الدينية، مبلوراً الخصائص الذاتية، اجتماعياً وثقافياً وأنثروبولوجياً، للشخصية المصرية القبطية. الأمر ذاته يتكرر عندما يستدعي في أعماله بعض المواقع التاريخية والأثرية التي ترتبط بماضي مصر القديمة، ومراحل تاريخها القبطي والإسلامي، وهو تاريخ يعايشه الخراط بوصفه واقعاً حياً، معيشاً ومستمراً، وبوصفه أيضاً واقعاً مقدساً ذا هالة نورانية ونفحة إلهية. في مرايا النقد لا يقتصر منجز إدوار الخراط الكبير على شقه الإبداعي فقط، إنما يسير معه وبموازاته، جهد نقدي حافل، وتنظيرات شديدة الثراء لما أسماه «الحساسية الجديدة» أو «الكتابة الجديدة». كان الخراط ناقداً ومنظراً لكل تيارات الحداثة وما بعدها في مجلاها الإبداعي، الأدبي والفني والنقدي، عبر عديد من كتاباته النقدية والبحثية؛ التي من أشهرها: «الحساسية الجديدة ـ مقالات في الظاهرة القصصية»، «القصة والحداثة»، «الكتابة الجديدة في مصر».. وغيرها من الكتب والدراسات التي حوت بدأب مدهش قراءات ومتابعات ورصد لأهم النتاج الإبداعي؛ القصصي والروائي في مصر والعالم العربي، خاصة في أشكالها الطليعية الجديدة، ومساراتها التجريبية الواعدة، وثورتها على الأشكال التقليدية في الكتابة الروائية والقصصية. وإذا كانت الكتابة الواقعية التي ازدهرت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي قد اقترنت بنزوع اشتراكي وليد، سرعان ما تبنته دولة المشروع القومي، ابتداء من ثورة يوليو في مصر، وذلك على نحو أشاع أفكار الاشتراكية التي اقترنت بمواقف قومية تقدمية، فإن إدوار الخراط قد خاصم هذا الاتجاه، وباعتباره ماركسياً تروتسكياً طليعياً، فقد استعاد وقائع هذا الزمن في عدد من كتاباته ومراجعاته النقدية، بعد أن انقلب مبكراً جداً على دعاوى الواقعية الاشتراكية واستبدل بالنزوع الواقعي «الحداثة» التي أصبحت عنواناً على مجمل مشروعه الأدبي والنقدي. وإذا كان كثير من النقاد الذين انتقدوا الجنوح الحداثي والدعوات المتحمسة لها؛ فإن دفاع الخراط العميق ودعوته القائمة على تمثل كامل لحفرياتها وأسسها المعرفية والفلسفية قد دفعت الكثيرين إلى قبول الحداثة الأدبية باعتبارها «الحداثة أدب رافض، وبذا فهي ظاهرة صحية، حتى لا نستسلم للواقع الكالح، وهي في تجددها المستمر، تعطي الفن قيمته الحقيقية، قيمته التنبؤية، الكشفية الجسور، وتنتشله من وهدة الدعاية الرخيصة»، ويقرر الخراط أنها معبر إلى تقاليد أفضل، أو نهاية لمذهب وبداية لمذهب آخر، لكنها انتشرت في مجتمعنا لأننا نخضع لفترة مخاض طويل نظراً لظروفنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الخاصة. صك الخراط، كذلك، مصطلح «عبر النوعية» الذي بات مصطلحاً نقدياً شائعاً ومتداولا في الكتابة النقدية الراهنة، ليصف به النصوص الإبداعية ذات النزوع الحداثي المتحررة من تقاليد وحدود النوع الأدبي المفرد، وتسعى إلى توظيف كل أو بعض عناصر الكتابة النوعية في ضفيرة خاصة وجديدة لها دلالاتها الكلية، المتناغمة مع لغتها المتجسدة بها ومن خلالها. وباستثناء كتابين أنجزهما باحثان مصريان وبضع مقالات أو دراسات نشرت هنا أو هناك، لم يحظ إدوار الخراط بدراسات كاملة تحيط بمنجزه الإبداعي والثقافي الشامل، وفي المكتوب عنه حظيت رواية «رامة والتنين» نصيب الأسد، وعليه، فأي جهد لمقاربة نصه يستدعي مجهوداً شاقاً، لكن يبقى من بين المطمور، مقالات لكبار النقاد المصريين والعرب: سامي خشبة، شكري عياد، صبري حافظ، يوسف الشاروني، جابر عصفور، صلاح فضل.. وآخرين. مأساة مصرية يقول سامي خشبة في دراسته: (رامة والتنين.. مأساة مصرية) حول الأهمية الخاصة بالرواية والهدف من التعبير عنها بهذا الطراز من الكتابة أن «إدوار الخراط عندما كتب هذه الرواية، إنما كتبها من منطلق واضح فيها كل الوضوح، حول تجربة الحب الضائع، التي يعيشها مثقف مصري قبطي تكونت ثقافته باعتباره (قبطياً) ينظر إلى الأشياء، وإلى تاريخ مجتمعه ولغته، من منظور فهمه الخاص لتاريخه الذاتي». سؤال الكتابة يتحدث إدوار الخراط عن نوع من الكتابة يسميه «الكتابة عبر النوعية» تندرج تحته «القصة - القصيدة» بدلاً من اصطلاح «النص المفتوح على الأنواع»، وعنها يقول: هي الكتابة التي تشتمل على الأنواع التقليدية، تحتويها في داخلها وتتجاوزها لتخرج عنها، بحيث تصبح الكتابة الجديدة في نفس الوقت «قصة - مسرحاً - شعراً» على سبيل المثال مستفيدة أيضاً، أو أحياناً، من منجزات الفنون الأخرى من تصوير، وموسيقى، ونحت، وسينما، ومعمار، أي أن هناك نوعاً من «التملك الشعري» للبنية السردية، في القصة - القصيدة، ولكنه لا يسود، ولا يجرف أمامه عنصر السرد. هذه الكتابة ليست شيئاً سهلاً أو متاحاً أو قريباً وسهل التناول، بل يجب مع بداية كل تجربة من هذا النوع التفرقة الصارمة بين الفوضى والحرية، بين الإبداع والتخبط، تظل الأنواع التقليدية قائمة باعتبارها تاريخاً، وباعتبارها إنجازاً ثابتاً ومكتسباً، ولا يصح التخلي عنه، باعتباره تراثاً، ولكن السؤال الآن هو: هل نظل أبد الدهر أسرى لمواصفات تاريخية سابقة، أم أن الفن بذاته وبتعريفه هو مغامرة مستمرة واختراق مستمر ومهاجمة للمستحيل؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©